كيفيّة الأجسام و أسبابها النور و الألوان.
و كلما كثرت الوسائط بينه و بين النظر، كان الخطأ فيه أكثر، و احتاجت الحاسة فيه
إلى دليل آخر يحقّق نظرها و يصدّق خبرها. من ذلك السّراب فإنه آخذ من لون الماء
بياضه، و من الضياء إشراقه، فحار فيه النظر و حال البعد فيما بين النظر و بينه عن
الحكم عليه بما هو به، فظنّه ماء، فلما جاءه لم يجده شيئا؛ و كالمجذاف الذي هو
غائص في الماء، فإن البصر لا يدركه إلّا معوجّا، لأنه قد زاد فيما بينه و بينه
واسطة أخرى و هي الماء، و كذلك ما يكون في الماء من الأشياء، فإن البصر لا يدركها
على ما هي به. و كذلك حال الشيء البعيد فإن الوسائط بينه و بين البصر كثيرة و هي
الضياء و الهواء، و كلما بعد ازداد في الصّغر و التلاشي في البصر إلى أن يغيب.
و أما حاسة السمع فإنها لا تكذب و قلما تخطئ، و ذلك لأنه ليس بينها و
بين محسوساتها إلا واسطة واحدة و هي الهواء، و إنما يكون خطؤها بحسب غلظ الهواء و
رقّته، و ذلك أنه ربما كانت الريح عاصفة و الهواء متحركا حركة شديدة، فيصوّت
المصوّت في مكان قريب من المسامع، فلا يسمع من شدة حركة الهواء و هيجانه، فتكون
حركة ذلك الصوت يسيرة في شدة حركة الهواء و هيجانه، فيضعف عن الوصول إلى الحاسة
السامعة. و إذا كان الهواء ساكنا، وصل ذلك الصوت إلى الحاسة، إذا كان في مكان يمكن
أن يتصل به ذلك التموّج و الحركة الحادثة في الهواء. فأما إذا كانت المسافة بعيدة
فإنها لا تدركه و تتلاشى تلك الحركة و تنفد قبل وصولها إليها.
و هكذا حاسة الشم فإنها تدرك من ذلك بحسب غلظ الهواء و رقّته و سكونه
و حركته، و ذلك أنه إذا كان الهواء غليظا فإنه قل ما تجد الروائح في الجهات و قل
ما تسري فيه. و إذا كان صافيا رقيقا و المسافة قريبة، فإنها تتصل بمشامّ الحاضرين،
و إذا بعدت تفرقت تلك الروائح في الجهات و لم يدرك شيء منها. و أما قبول الهواء
للأصوات و الروائح فإني أشرحه لك بعون اللّه.