و التلذذ في الدنيا، فبذلك المقدار ينقص
حظّه من نعيم الآخرة. و إلى هذا المعنى أشار بقوله تعالى في عتابه للمسرفين: «أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ
اسْتَمْتَعْتُمْ بِها». و قال سبحانه:
«مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَ مَنْ كانَ
يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
نَصِيبٍ».
و حكي أيضا قول الرّبانيّين العارفين حقيقة ما نقول، حين قالوا
لقارون:
لا تفرح إن اللّه لا يحب الفرحين، و ابتغ فيما آتاك اللّه الدار
الآخرة، و لا تنس نصيبك من الدنيا، و أحسن كما أحسن اللّه إليك؛ و ذلك لأنهم علموا
بأن نصيبه من الدنيا هو مقدار ما يقدّمه لآخرته، و لا يتمتع به كلّه في الدنيا. و
قد قال تعالى: «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ
عِنْدَ اللَّهِ».
و آيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى الذي ذكرنا. فلا تغترّ يا أخي
بما ترى من حال المترفين في الدنيا، و ما يتنعمون من النعم و التلذّذ مع عصيان
اللّه، و إعراضهم عن الآخرة، و تركهم ذكر المعاد، فعمّا قليل سيفنى ما هم فيه من
نعيم الدنيا، و يحضرون للآخرة فيكونون من فقرائها و أشقيائها، كما ذكر اللّه تعالى
فقال: «وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ
يَنْقَلِبُونَ». و ذلك أنهم ظلموا أنفسهم باستعجالهم راحة الدنيا، و إعراضهم عن
الآخرة، و عصيانهم عنها، و تركهم الاستعداد لها، و لم يسعوا في إخلاص نفوسهم و
فكاك رقابهم منها. و لا جرم أنهم سيعلمون أيّ منقلب ينقلبون، و كفى بهذا وعيدا و
تهديدا، و إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.
و قد تبين بما ذكرنا أن مكث الجنين في الرحم مدة ما، إنما هو لكي
يتمّ الجسد و تستكمل صورة البدن، و الغرض من ذلك أن المولود ينتفع بالحياة الدنيا
بعد الولادة.
و كذلك أيضا قد قال الحكيم: إن مكث الإنسان العاقل الذي هو تحت الأمر
و النهي، إمّا بموجب العقل أو بطريق السمع بأوامر الناموس