و أما ما كان أشرف منها و أعلى، فصارت
معرفتها لها بطريق البرهان الذي يضطر العقول إلى الإقرار به من غير إحاطة و لا
مباشرة، و صارت معرفتها بذاتها و جوهرها بطريق العقل. لأن نسبة العقل إلى النفس
كنسبة الضوء من البصر، و كنسبة المرآة إلى الناظر فيها، فكما أن البصر لا يرى شيئا
من الأشياء إلّا بالضوء، كالإنسان لا يرى وجهه إلّا بالمرآة و النظر فيها، كذلك
النفس لا تنظر ذاتها إلّا بنور العقل، و لا تعرف حقائق الموجودات إلّا بالنظر إلى
العقل.
و إنما يتسنى للنفس النظر إلى العقل بعين البصيرة، إذا هي انفتحت، و
إنما تنفتح لها عين البصيرة، إذا هي انتبهت من نوم الغفلة و رقدة الجهالة، و نظرت
بعين الرأس إلى هذه المحسوسات، و فكّرت في معانيها، و اعتبرت أحوالها حتى تعرفها
حق معرفتها.
فمن أجل هذا قدّمنا رسالة الحاس و المحسوس على رسالة العقل و
المعقول، فاعتبر يا أخي هذه الأمور التي وصفنا، و تفكر في معانيها و حقائقها،
تنتبه من نوم الغفلة و رقدة الجهالة، و تنفتح عين البصيرة، فتعاين في ذاتها صور
الأشياء، و تبين في جوهرها معاني الموجودات، لأنها معادن العلوم كلها، و مأوى
الحكمة، كما قال الحكيم الفاضل: إن العلوم كلها في النفس بالقوة، فإذا فكّرت في
ذاتها و عرفتها، صارت العلوم كلها فيها بالفعل.
تمت رسالة الحاس و المحسوس، و يتلوها رسالة مسقط النّطفة، و الحمد
للّه على جزيل عطائه و صلواته على خير أنبيائه محمد سيد المرسلين، و خاتم النبيين
و العترة الطاهرة من أبنائه و سلم تسليما.