و اعلم يا أخي أن فضائل النفس الكلية فائضة على الأنفس الجزئية دفعة
واحدة، مبذولة لها دائم الأوقات؛ لكنّ الأنفس الجزئية لا تطيق قبولها إلّا شيئا
بعد شيء في ممرّ الزمان، و المثال في ذلك فيض الأنفس الجزئية بعضها على بعض، و
ذلك أن الأب الشفيق و المعلّم الحريص على تعليم تلميذه، يودّ أن يعلم كلّ ما
يحسنه، و يعلّمه لتلميذه دفعة واحدة، و لكنّ نفس المتعلم لا تقبل إلّا شيئا بعد
الشيء على التدريج.
ثم إن المانع للأنفس الجزئية قبول فيض النفس الكليّة دفعة واحدة هو
لأجل استغراقها في بحر الهيولى و تراكم ظلمات الأجسام على بصرها، لشدة ميلها إلى
الشهوات الجسمانية، و غرورها باللذات الجرمانية، فمتى انتبهت من نوم الغفلة و
استيقظت من رقدة الجهالة، و صحت من سكرة عمايتها، و أفاقت من غمرة غشيتها، و أخذت
ترتقي في العلوم و المعارف، و دامت على تلك الحال، لحقت بالنفس الكلية، و شاهدت تلك
الأنوار العقلية و الأضواء البهيّة، و نالت تلك الملاذّ الروحانية و السّرورات
الدّيموميّة الأبديّة، التي كلّها أشرف و أعلى منزلة مما كان، فوق ما تقدّم قبله،
و دون ما يأتي بعده. و متى هي أعرضت عمّا و صفنا، و أقبلت على طلب الشهوات
الجسمانيّة و الزينة الطبيعيّة، بعدت من هناك و انحطّت إلى أسفل السافلين، و غرقت
في بحر الهيولى، و غشيتها أمواجها، و تراكمت على بصرها ظلماتها، و إلى هاتين
الحالتين أشار، عزّ اسمه، بقوله تعالى: «اللَّهُ نُورُ
السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ، الْمِصْباحُ
فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ»
الآية. ثم قال تعالى: «أَوْ كَظُلُماتٍ