و اعلم يا أخي بأن الإنسان العاقل اللبيب إذا أكثر التأمّل و النظر
إلى الأمور المحسوسة، و اعتبر أحوالها بفكرته، و ميّزها برويّته، كثرت المعلومات
العقلية في نفسه. و إذا استعمل هذه المعلومات بالقياسات، و استخرج نتائجها، كثرت
المعلومات البرهانية في نفسه. و كلّ نفس كثرت معلوماتها البرهانية، كانت قوتها على
تصوّر الأمور الروحانية التي هي صورة مجرّدة عن الهيولى بحسب ذلك، و عند ذلك
تشبّهت بها و صارت مثلها بالقوّة. فإذا فارقت الجسد عند الممات صارت مثلها بالفعل،
و استقلّت بذاتها، و نجت من جهنّم عالم الكون و الفساد، و فازت بالدخول إلى الجنّة
عالم الأرواح التي هي دار الحيوان، لو كانوا يعلمون أبناء الدّنيا الذين يريدون
الحياة الدّنيا، و يتمنّون الخلود فيها: «يَوَدُّ
أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ
الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ». فأعيذك أيها الأخ أن تكون
منهم، بل كن من أبناء الآخرة و أولياء اللّه الذين مدحهم بقوله تعالى توبيخا لمن
زعم أنه منهم فقال، جلّ جلاله: «قُلْ: يا أَيُّهَا
الَّذِينَ هادُوا[1] إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ
النَّاسِ، فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ».
فبادر يا أخي و اجتهد في طلب المعارف الرّبانيّة و اكتساب الأخلاق الملكيّة، و
سارع إلى الخيرات من الأعمال الزكيّة قبل فناء العمر و تقارب الأجل، و اغتنم خمسا
قبل خمس، قال رسول اللّه، صلى اللّه عليه و سلم: اغتنم فراغك قبل شغلك، و غناك قبل
فقرك، و صحّتك قبل سقمك، و شبابك قبل هرمك، و حياتك قبل موتك، و تزوّد فإن خير
الزّاد التقوى، فلعلك توفّق للصعود إلى ملكوت السماء و سعة الأفلاك، و تدخل إلى
الجنّة عالم الأرواح بنفسك الزكيّة الروحانيّة،