فإنها ليس من الضرورة أن تصدق على جميع
النوع، و لا كلّ صفة نوعيّة تصدق على جميع الجنس، فلا تستعملها في البرهان، و لا تحكم
بها حكما حتما، فإنك لست منها على حكم يقين. فقد عرفت و استبان لك أن الحكماء و
المتفلسفين ما وضعوا القياس البرهاني إلا ليعلموا به الأشياء التي لا تعلم إلا
بالقياس، و هي الأشياء التي لا يمكن أن تعلم بالحسّ و لا بأوائل العقول، بل بطريق
الاستدلال و هو المسمّى البرهان.
و اعلم يا أخي بأن لكل صناعة أهلا، و لأهل كل صناعة أصولا في
صناعتهم، هم متفقون عليها، و أوائل في علومهم لا يختلفون فيها، لأن أوائل كلّ
صناعة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها في الترتيب.
فصل في أن صناعة البرهان نوعان
و اعلم بأن أوائل صناعة البرهان مأخوذة مما في بداية العقول، و أن
التي في بداية العقول مأخوذة أوائلها من طريق الحواسّ كما بيّنّا قبل.
و اعلم أن صناعة البرهان نوعان: هندسيّة و منطقيّة. فالأوائل التي في
صناعة الهندسة مأخوذة من صناعة أخرى قبلها مثل قول أقليدس: النقطة هي شيء لا جزء
له، و الخطّ طول بلا عرض، و السطح ما له طول و عرض، و ما شاكل هذه من المصادرات[1] المذكورة في أوائل المقالات. فهكذا
أيضا حكم البراهين المنطقيّة، فإن أوائلها مأخوذة من صناعة قبلها، و لا بدّ
للمتعلّمين أن يصادروا عليها قبل البرهان. فمن ذلك قول صاحب المنطق: إن كل شيء
[1] -المصادرات: جمع المصادرة، و هي التي تجعل النتيجة
جزء القياس، او تلزم النتيجة من جزء القياس، كقولنا: الانسان بشر، و كل بشر ضحّاك،
فالكبرى هنا و المطلوب شيء واحد، لأن البشر و الانسان مترادفان في اتحاد المفهوم،
فتكون الكبرى و النتيجة شيئا واحدا.
و قد تطلق المصادرات على مقدّمات
مذكورة في العلوم المعروفة، مسلحة في الوقت مع استنكار و تشكيك.