اختلافاتهم تكون في الأشياء التي تعلم بطريق
الاستدلال و المقاييس، و سبب اختلافهم فيها كثرة الطرق و فنون المقاييس و كيفية
استعمالها، و شرح ذلك طويل قد ذكر في كتب المنطق و كتب الجدل، و نريد أن نبيّن كيف
تحصل حقائق هذه المعلومات في أنفس العقلاء.
و اعلم يا أخي بأن هذه المعلومات التي تسمّى أوائل في العقول إنما
تحصل في نفوس العقلاء باستقراء الأمور المحسوسة شيئا بعد شيء، و تصفّحها جزءا بعد
جزء، و تأمّلها شخصا بعد شخص، فإذا وجدوا منها أشخاصا كثيرة تشملها صفة واحدة حصل
في نفوسهم بهذا الاعتبار أن كل ما كان من جنس ذلك الشخص و من جنس ذلك الجزء هذا
حكمه، و إن لم يكونوا يشاهدون جميع أجزاء ذلك الجنس، و أشخاص ذلك النوع. مثال ذلك
أن الصبي إذا ترعرع و استوى و أخذ يتأمل أشخاص الحيوانات واحدا بعد واحد، فيجدها
كلّها تحسّ و تتحرك، فيعلم عند ذلك أن كل ما كان من جنسها هذا حكمه. و هكذا إذا
تأمل كلّ جزء من الماء أيّ جزء كان، فوجده رطبا سيّالا؛ و كلّ جزء من النار، فوجده
حارّا محرقا؛ و كلّ جزء من الأحجار، فوجده صلبا يابسا، علم عند ذلك أن كل ما كان
من ذلك الجنس فهذا حكمه. فبمثل هذا الاعتبار تحصل المعلومات في أوائل العقول بطريق
الحواسّ.
و اعلم يا أخي بأن مراتب العقلاء في مثل هذه الأشياء التي تحصل في
النفوس بطريق الحواسّ متفاوتة في الدّرجات، و ذلك أن كلّ من كان منهم أنعم نظرا و
أحسن تأملا و أجود تفكرا و ألطف رويّة و أكثر اعتبارا، كانت الأشياء التي تعلم
ببدائه العقول في نفوسهم أكثر مما في نفوس من يكون طول عمره ساهيا لاهيا مشغولا
بالأكل و الشرب و اللهو و اللذات و الأمور الجسمانية.
و اعلم يا أخي بأن أكثر ما يدخل الخطأ على المتأمّلين في حقائق
الأشياء المحسوسة، إذا حكموا على حقيقتها بحاسة واحدة. مثال ذلك من يرى