و هكذا يظنّ كثير منهم أن خارج العالم فضاء
بلا نهاية إما ملاء[1] و إما
خلاء، قياسا على ما يجدون من خارج دورهم من أماكن أخر، و خارج بلدهم بلدانا أخر، و
خارج عالمهم عالم الأفلاك، و هكذا يظنون أن الباري، عزّ و جلّ، خلق العالم في مكان
و زمان، قياسا على ما يجدون من أفعالهم و صنائعهم في مكان و زمان. و لهذه العلّة
ظنّ كثير منهم أن الباري، جلّ جلاله، جسم، قياسا على ما شاهدوا، إذ لم يجدوا فاعلا
إلّا جسما، و وجدوا الباري فاعلا، و إذا ارتاضوا في العلوم الإلهية، استبان لهم أن
الأمر بخلاف ذلك كما بيّنّا في الرسالة الإلهية.
و اعلم يا أخي بأن الانسان لا يرتقي في درجات العلوم و المعارف رتبة
إلا و تسنح له أمور يكون علمه بها قبل البيان و الكشف كظنونه بالأشياء المحسوسات
قبل معرفة حقائقها و هو طفل كما بيّنّا قبل.
فصل في معقولات الحواس و نتائجها
و اعلم يا أخي بأن نسبة المعلومات التي يدركها الإنسان بالحواسّ
الخمس، بالإضافة إلى ما ينتج عنها في أوائل العقول، كثيرة كنسبة الحروف المعجمة
بالإضافة إلى ما يتركّب عنها من الأسماء. و نسبة المعلومات التي هي في أوائل
العقول، بالإضافة إلى ما ينتج عنها بالبراهين و القياسات من العلوم، كثيرة، كنسبة
الأسماء إلى ما يتألّف عنها في المقالات و الخطب و المحاورات من الكلام و اللغات،
و الدليل على صحة ما قلنا بأن المعلومات القياسية أكثر عددا من المعلومات التي هي
في أوائل العقول ما ذكر في كتاب أقليدس، و ذلك أنه يذكر في صدر كل مقالة مقدار عشر
معلومات أقلّ أو أكثر مما هي في أوائل العقول، ثم يستخرج من نتائجها مائتي مسألة معلومات
برهانيّة،
[1] -الملاء: الجسم في اصطلاح الحكماء، و مدّ هنا
كالخلاء للازدواج.