فصل في بيان العلة الداعية إلى تصنيف
القياسات المنطقية
اعلم يا أخي بان الحكماء الأوّلين، لما نظروا في فنون العلوم و
أحكموها، و استخرجوا الصنائع العجيبة و أتقنوها، و استنبطوا عند ذلك لكل علم و
صناعة أصلا منه تتفرّع أنواعه، و وضعوا له قياسا يعرف به فروعها، و ميزانا يتبيّن
به الزائد و الناقص و المستوي منها، مثل صناعة العروض التي هي ميزان الشعر يعرف
بها الصحيح و المنزحف من الأبيات، و مثل صناعة النّحو التي هي ميزان الإعراب يعرف
بها اللحن و الصواب في الكلام، و مثل الأسطرلاب الذي هو ميزان يعرف به الأوقات في
صناعة النجوم، و مثل المسطرة و البركار و الكونيا[1]
التي هي موازين في أكثر الصنائع يعرف بها الاستواء من الاعوجاج، و مثل المكيال و
الذراع و الشاهين[2] و القبّان
التي هي موازين يعرف بها الزائد و الناقص و المستوي في البيع و الشّراء في معاملات
التجّار، و مثل الحساب الذي هو ميزان العمّال و أصحاب الدواوين.
و اعلم يا أخي بأن هذه المقاييس و الموازين هي حكّام بين الناس،
نصبها اللّه الباري، جلّ ثناؤه، بين خلقه قضاة و عدولا تحكم بالحق فيما يختلف
الناس فيه من الحكم بالحزر و التخمين، لكيما، إذا تحاكموا إلى الموازين و المكاييل
و المقاييس، حكمت بينهم بالحق، و قضي الأمر و انفصل الخطاب و ارتفع الخلف؛ فلما
رأى الحكماء المنطقيون اختلاف العلماء في الأقاويل و الحكم على المعلومات بالحزر و
التخمين بالأوهام الكاذبة، و منازعتهم فيها، و تكذيب بعضهم بعضا، و ادّعاء كل واحد
أن حكمه الحق و خصمه المبطل، و لم يجدوا لهم قاضيا من البشر يرضون بحكمه، لأن ذلك
القاضي أيضا يكون أحد الخصوم، فرأوا من الرأي الصواب و الحكمة البالغة أن يستخرجوا
بقرائح