الفكري أمر روحاني معقول، و ذلك أن النطق
اللفظي إنما هو أصوات مسموعة لها هجاء و هي تظهر من اللسان الذي هو عضو من الجسد،
و تمرّ إلى المسامع من الآذان التي هي أعضاء من أجساد أخر، و أن النّظر في هذا
المنطق و البحث عنه و الكلام على كيفيّة تصاريفه و ما يدلّ عليه من المعاني، يسمّى
علم المنطق اللّغويّ. و أما النّطق الفكري الذي هو أمر روحاني معقول، فهو تصوّر
النّفس معاني الأشياء في ذاتها، و رؤيتها لرسوم المحسوسات في جوهرها، و تمييزها
لها في فكرتها، و بهذا النّطق يحدّ الإنسان، فيقال إنه حيّ ناطق مائت، فنطق
الإنسان و حياته من قبل النّفس، و موته من قبل الجسد، لأن اسم الإنسان إنما هو
واقع على النفس و الجسد جميعا.
و اعلم أن النّظر في هذا النّطق و البحث عنه و معرفة كيفيّة إدراك
النفس معاني الموجودات في ذاتها بطريق الحواسّ، و كيفيّة انقداح المعاني في فكرها
من جهة العقل الذي يسمّى الوحي و الإلهام، و عبارتها عنها بألفاظ بأي لغة كانت،
يسمّى علم المنطق الفلسفيّ.
و لما كان النّطق اللفظيّ أمرا جسمانيّا ظاهرا جليّا محسوسا، وضع بين
الناس لكيما يعبّر به كلّ إنسان عمّا في نفسه من المعاني لغيره من الناس السّائلين
عنه، و المخاطبين له، احتجنا إلى أن نذكر من هذا المنطق طرفا شبه المدخل ليقرب على
المتعلّمين فهم علم المنطق الفلسفي، و يسهل تأمّله على الناظرين، فنقول أيضا إنه
لما كان النّطق اللّفظي هو ألفاظ مؤلّفة من الحروف المعجمة، احتجنا أن نذكر الحروف
أولا، فنقول: إن الحروف ثلاثة أنواع: فكريّة و لفظيّة و خطيّة. فالفكريّة هي صورة
روحانيّة في أفكار النّفوس مصوّرة في جواهرها قبل إخراجها معانيها بالألفاظ؛ و
الحروف اللّفظيّة هي أصوات محمولة في الهواء، فمدركة بطريق الأذنين بالقوّة
السامعة، كما بيّنّا في رسالة الحاسّ و المحسوس؛