و أما أشقياء الدنيا و سعداء الآخرة فهم
الذين طالت أعمارهم فيها، و كثرت مصائبهم في تصاريف أيامها، و اشتدت عنايتهم في
طلبها، و فنيت أبدانهم في خدمة أهلها، و كثرت همومهم من أجلها، و لم يحظوا بشيء
من نعيمها و لذاتها، و ائتمروا بأوامر الناموس، و لم يتعدّوا حدوده، و قد ذكر
اللّه ذلك في آيات كثيرة من القرآن: «إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ».
و أما أشقياء الدنيا و الآخرة فهم الذين بخسوا حظّهم من الدنيا و لم
يمكّنوا منها و شقوا في طلبها، فعاشوا فيها طول أعمارهم بأبدان متعوبة و نفوس
مهمومة، و لم ينالوا خيرا، ثم لم يأتمروا بأوامر الناموس، و لم ينقادوا لأحكامه، و
تجاوزوا حدوده، و لم يتّعظوا بزواجره، و لم يعملوا في عمارة بنيانه و لا في حفظ
أركانه، فهم الذين خسروا الدنيا و الآخرة جميعا، ذلك هو الخسران المبين.
فصل
و إذ قد تبيّن بما ذكرنا بأقسام عقلية أنه لا يخلو أحد من الناس من
أن يكون داخلا في أحد تلك الأقسام الأربعة، فنريد أن نذكر أخلاق أبناء الدنيا و
طباعهم، و أخلاق أبناء الآخرة و سجاياهم، ليعرف الفرق بينهم.
اعلم يا أخي، أيّدك اللّه و إيانا بروح منه، بأن أخلاق بني الدنيا هي
التي ركّزتها الطبيعة في الجبلة من غير كسب منهم و لا اختيار و لا فكرة و لا رويّة
و لا اجتهاد و لا كلفة، فهم يسعون فيها و يعملون عليها مثل البهائم في طلب منافع
الأجساد و دفع المضرّة عنها، كما قال اللّه تعالى ذكره:
«يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ، وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ». و أما أخلاق أبناء الآخرة فهي التي اكتسبوها باجتهادهم، إما بموجب
العقل و الفكر و الروية، و إما باتّباع أوامر الناموس و تأديبه، كما سنبيّن، و
تصير عند ذلك عادة لهم بطول الدّؤوب