يبقى كلّ موجود أطول ما يمكن على أفضل
حالاته و أتمّ غاياته. و السعادة الأخروية أن تبقى كل نفس إلى أبد الآبدين على
أفضل حالاتها و أتمّ غاياتها.
و اعلم يا أخي بأن النفوس الجزئيّة انما ربطت بأجسادها التي هي أجسام
جزئيّة كيما تكمل فضائلها، و تخرج كلّ ما في القوّة و الامكان إلى الفعل و الظهور
من الفضائل و الخيرات. و لم يمكن ذلك إلّا بارتباطها بهذه الأجساد و تدبيراتها
لها، كما ان الباري، جلّ ثناؤه، لم يكن إظهار جوده و فيض إحسانه و أفضاله و إنعامه
إلّا بايجاده هذا الهيكل العظيم المبنيّ بالحكمة، المصنوع بالقدرة، أعني الفلك
المحيط و ما يحويه من سائر الأفلاك و الكواكب و الأركان و الموّلدات الكائنات، و
تدبيره لها و سياسته إياها.
و إذ قد تبيّن بما ذكرنا ما الغرض و ما الفائدة من الشهوات المركوزة
في الجبلة، و ما يتبعها من الأخلاق و الخصال، و هي ان تدعو تلك الشهوات النفوس إلى
طلب المنفعة لأجسادها و دفع المكروه و المضرّة عنها، و تعينها تلك الأخلاق و
الخصال عليها، فنريد أن نبيّن الآن ما الخير منها و ما الشرّ و ما المذموم منها و
ما المحمود، و متى يكون الإنسان مثابا بها أو معاقبا.
فصل في ترتب الأخلاق على بعضها و كونها فضيلة أو رذيلة
و اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، بأن الإنسان لما كان
جسده مركبا من الأخلاط الأربعة، و كان مزاجه من الطبائع الأربع، جعل الباري، جلّ
ثناؤه، بواجب الحكمة، أكثر أموره و تصاريف أحواله مربّعات مشاكلات مطابقات بعضها
لبعض، ليكون أعون له على ما يراد منه و أدلّ:
من ذلك أنك تجد أخلاقه و أفعاله بعضها طبيعية مركوزة في الجبلة، كما
ذكرنا طرفا من ذلك، و بعضها نفسانيّة اختيارية، و بعضها عقليّة فكرية، و بعضها
ناموسيّة سياسيّة.