فلما فارقه احتاج هذا الجسد إلى أربعة نفر
يحملونه على لوح مطروحا عليه لا يطيق قياما و لا قعودا و لا حركة، و لا يحس
بوجوده، و لا ما يفعل به من غسل و دفن. و قد زعم كثير من أهل العلم ممن ليست له
خبرة بأمر النفس، و لا معرفة بجوهرها أن هذه الصنائع المحكمة و الأفعال المتقنة
التي تظهر على أيدي البشر، الفاعل لها هو هذا الجسد المؤلّف من اللحم و الدم و
الشّحم و العظام و العصب بأعراض تحلّه مثل الحياة و القدرة و العلم و ما شاكلها، و
لم يعرفوا أن هذه الأعراض ليس حلولها في الجسم، و انما هي أعراض نفسانيّة تحلّ
جوهر النفس، و ذلك أن الإنسان لما كان مجموعا من جسم ميّت و نفس حيّة، وجدت هذه
الأعراض في حال حياته، و فقدت في حال مماته، و ليست الحياة شيئا سوى استعمال النفس
الجسد، و لا الممات شيئا سوى تركها استعماله، كما انه ليست اليقظة سوى استعمالها
الحواسّ الخمس، و لا النوم شيئا سوى تركها استعمالها.
فصل في شرف الصنائع
اعلم يا أخي بأن الصنائع يتفاضل بعضها على بعض من عدّة وجوه:
إحداها من جهة الهيولى التي هي الموضوع فيها، و منها من جهة
مصنوعاتها، و منها من جهة الحاجة الضّرورية الداعية إلى اتخاذها، و منها من جهة
منفعة العموم، و منها من جهة الصناعة نفسها. فأما التي شرفها من جهة الحاجة
الضرورية اليها فهي ثلاثة أجناس، و هي الحياكة و الحراثة و البناء كما ذكرنا قبل.
و أما التي شرفها من جهة الهيولى الموضوع فيها فمثل صناعة الصاغة و
العطّارين و ما شاكلها. و أما التي من جهة مصنوعاتها فمثل صناعة الذين يعملون آلات
الرّصد مثل الأسطرلاب و ذوات الحلق و الأكر الممثّلة بصورة الأفلاك و ما شاكلها،
فإن قطعة من الصّفر قيمتها خمسة دراهم، إذا عمل منها