تلك الصورة مصنوعة؛ و من الصّنّاع من يستعمل
النار كالجرّارين[1] و
القدوريين و الغضّارين، و من يطبخ الآجرّ، و غرضهم في ذلك تقييد الصورة في
الهيولى، و ثباتها فيها لئلّا تنسلّ منها الصورة بالعجلة، لأن من شأن الهيولى دفع
الصورة عن ذاتها، و رجوعها إلى حالها الأول جوهرا بسيطا لا تركيب فيه، و لا كميّة
و لا كيفيّة، و من الصنّاع من يستعمل النار في موضوعه و مصنوعه كالطبّاخين و
الشوّائين و الخبّازين و أمثالهم، و غرضهم تتميمها و تنضيجها ليتمّ الانتفاع بها.
فصل في مراتب الصناعات
و اعلم يا أخي بأن من هذه الصنائع ما هي بالقصد الأول دعت الضّرورة
اليها، و منها ما هي تابعة لها و خادمة، و منها ما هي متمّمة لها و مكمّلة، و من
الصنائع ما هي جمال و زينة. فأما التي بالقصد الأول فثلاثة، و هي الحراثة و
الحياكة و البناء؛ و أما سائرها فتابعة و خادمة و متمّمة، و ذلك أن الإنسان لما
خلق رقيق الجلد عريانا من الشعر و الصوف و الوبر و الصّدف و الريش، و ما هو موجود
لسائر الحيوان، دعته الضّرورة إلى اتخاذ اللّباس بصناعة الحياكة؛ و لما كانت
الحياكة لا تتمّ إلّا بصناعة الغزل، و صناعة الغزل لا تتمّ إلّا بصناعة الحلج،
فصارت هذه الثلاثة تابعة لها و خادمة. و أيضا لما كان اللّباس لا يتمّ إلّا
بالحياكة حسب، صارت صناعة الخياطة و القصارة[2]
و الرّفو و الطّرز متمّمة لها و مكمّلة. و أيضا لما خلق الإنسان محتاجا إلى القوت
و الغذاء، و القوت و الغذاء لا يكونان إلّا من حبّ النبات و ثمر الشجر، دعت
الضّرورة إلى صناعة الحراثة و الغرس؛ و لما كانت صناعة الحراثة