و قال آخر: لا يفهم معاني الموسيقار، و لطيف
عبارته عن أسرار الغيوب إلّا النفوس الشريفة الصّافية من الشوائب الطبيعيّة، و
البريئة من الشّهوات البهيمية. و قال آخر: ان الباري، جلّ ثناؤه، لما ربط النفوس
الجزئيّة بالاجساد الحيوانيّة، ركّب في جبلتها الشهوات الجسميّة، و مكّنها من
تناول اللذات الجرمانيّة في أيام الصّبا، ثم سلبها عنها في أيام الشيخوخة، و
زهّدها فيها، كيما يدلّها على الملاذّ و السرور و النعيم الذي في عالمها الروحاني،
و يرغّبها فيها؛ فإذا سمعتم نغمات الموسيقار، فتأمّلوا اشاراته نحو عالم النفوس.
و قال آخر: ان النفوس الناطقة إذا صفت عن الشهوات الجسمانية، و زهدت
في الملاذّ الطبيعيّة، و انجلت عنها الأصدية الهيولانيّة، ترنمت بالالحان الحزينة،
و تذكرت عالمها الروحاني الشريف العالي، و تشوّقت نحوه، فإذا سمعت الطبيعة ذلك
اللحن تعرّضت للنفس بزينة أشكالها، و رونق أصباغها، كيما تردّها إليها؛ فاحذروا من
مكر الطبيعة ان لا تقعوا في شبكتها. و قال آخر: ان السمع و البصر هما من أفضل
الحواسّ الخمس و أشرفها التي وهب الباري، جلّ ثناؤه، للحيوان، و لكن أرى البصر
أفضل، لأنه كالنهار، و السمع كالليل، و قال آخر: لا بل السمع أفضل من البصر، لأن
البصر يذهب في طلب محسوساته، و يخدمها حتى يدركها مثل العبيد؛ و السمع يحمل إليه
محسوساته حتى تخدمه مثل الملوك. و قال آخر: ان البصر لا يدرك المحسوسات إلّا على
خطوط مستقيمة، و السمع يدركها من محيط الدائرة.
و قال آخر: محسوسات البصر أكثرها جسمانيّة، و محسوسات السمع كلّها
روحانية. و قال آخر: النفس بطريق السمع تنال خبر من هو غائب عنها بالمكان و
الزمان، و بطريق البصر لا ينال إلّا ما كان حاضرا في الوقت.
و قال آخر: السمع أدقّ تمييزا من البصر، إذ كان يعرف بجودة الذوق
الكلام الموزون، و النغمات المتناسبة، و الفرق بين الصحيح و المنزحف، و الخروج من
الإيقاع، و استواء اللحن، و البصر يخطئ في أكثر مدركاته، فإنه ربما يرى