و اعلم يا أخي، أيدك اللّه و إيانا بروح منه، ان اللّه، جلّ جلاله،
جعل بواجب حكمته لكلّ جنس من الموجودات حاسّة مختصّة بإدراكها، و قوة من قوى
النّفس تنالها بها و تعرفها بطريقها، لا تنال بطريقة أخرى، و جعل أيضا في جبلة كلّ
حاسّة درّاكة، أو قوة علّامة، أن تستلذّ من إدراك محسوساتها، و تتشوّق إليها إذا
فقدتها و ملّت منها إذا دامت عليها، و تستروح[1]
إلى غيرها من أبناء جنسها، مثل ما هو معروف بين الناس في مأكولاتهم و مشروباتهم، و
ملبوساتهم، و مشموماتهم، و مبصراتهم، و مسموعاتهم؛ فالموسيقار الحاذق الفاره[2] هو الذي إذا علم بأن المستمعين قد
ملّوا من لحن، غنّى لهم لحنا آخر، إما مضادّا له أو مشاكلا له.
و اعلم يا أخي ان الخروج من لحن إلى لحن، و الانتقال منه ليس له طريق
إلا على أحد الوجهين، إما أن يقطع و يسكت و يصلح الدّساتين و الأوتار بالحزق[3] و الارخاء، و يبتدئ و يستأنف لحنا
آخر، أو يترك الأمر بحاله، و يخرج من ذلك اللحن إلى لحن آخر قريب منه مشاكل له، و
هو أن ينتقل من الثقيل إلى خفيفه، أو من الخفيف إلى ثقيله أو إلى ما قارب منه. و
المثال في ذلك انه إذا أراد ان ينتقل من خفيف الرّمل إلى الماخوريّ أن يقف عند
النقرتين الاخيرتين من ثقيل الرّمل ثم يتلوهما بنقرة، ثم يقف وقفة خفيفة، ثم يبتدئ
بالماخوريّ؛ و من حذق الموسيقار أيضا أن يكسو الاشعار المفرّحة الألحان المشاكلة
لها، مثل الأرمال و الأهزاج، و ما كان منها من المديح في معاني المجد و الجود و
الكرم أن يكسوها من الالحان المشاكلة لها