قولهم إن الأشخاص الفلكية علل أوائل لهذه
الأشخاص التي في عالم الكون و الفساد، و إن حركاتها علة لحركات هذه، و حركات هذه
تحاكي حركاتها، فوجب أن تكون نغمات هذه تحاكي نغماتها. و المثال في ذلك حركات
الصّبيان في لعبهم، فإنهم يحاكون أفعال الآباء و الأمّهات، و هكذا التلامذة و
المتعلّمون يحاكون في أفعالهم و صنائعهم أفعال الأستاذين و المعلّمين و أحوالهم. و
إن أكثر العقلاء يعلمون بأن الأشخاص الفلكية و حركاتها المنتظمة متقدّمة الوجود
على الحيوانات التي تحت فلك القمر، و حركاتها علّة لحركات هذه؛ و عالم النفوس
متقدّم الوجود على عالم الأجسام، كما بيّنّا في رسالة الهيولى و رسالة المبادي
العقلية.
فلما وجد في عالم الكون حركات منتظمة، لها نغمات متناسبة، دلّت على
ان في عالم الافلاك، لتلك الحركات المنتظمة المتّصلة، نغمات متناسبة مفرّحة
لنفوسها، و مشوّقة لها إلى ما فوقها، كما يوجد في طباع الصبيان اشتياق إلى أحوال
الآباء و الأمّهات، و في طباع التلامذة و المتعلمين اشتياق إلى أحوال الاستاذين، و
في طباع العامّة اشتياق إلى أحوال الملوك، و في طباع العقلاء اشتياق إلى أحوال
الملائكة و التشبّه بهم، كما ذكر في حد الفلسفة انها التشبه بالإله بحسب الطاقة الإنسيّة.
و يقال ان فيثاغورس الحكيم سمع بصفاء جوهر نفسه و ذكاء قلبه نغمات حركات الأفلاك و
الكواكب، فاستخرج بجودة فطرته أصول الموسيقى و نغمات الالحان، و هو أول من تكلم في
هذا العلم، و أخبر عن هذا السر من الحكماء؛ ثم بعده نيقوماخس و بطليموس و أقليدس و
غيرهم من الحكماء. و هذا كان غرض الحكماء من استعمالهم الالحان الموسيقية و نغم
الاوتار في الهياكل و بيوت العبادات، عند القرابين في سنن النواميس الالهية، و
خاصة الالحان المحزنة المرقّقة للقلوب القاسية، المذكّرة للنفوس الساهية و الارواح
اللاهية الغافلة عن سرور عالمها الروحانيّ و محلّها النورانيّ، و دارها الحيوانية.
و كانوا يلحّنون مع نقرات تلك الاوتار كلمات و ابياتا موزونة