له حكمة الصّانع و جلالة عظمته، فينتبه من
نوم الغفلة و رقدة الجهالة، و يعلم أنه ما خلق هذه الأشياء إلّا لأمر عظيم، و ذلك
قوله تعالى: «ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ
ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ».
فصل في الحث على النظر في الأرض للاعتبار
اعلم يا أخي بأن من دخل الدّنيا و عاش فيها زمانا طويلا مشغولا
بالأكل و الشّرب و النّكاح، دائبا في طلب الشّهوات و الحرص على جمع المال و
الأثاث، و اتخاذ البنيان و عمارة الأرض و العقارات، و طلب الرّئاسة متمنّيا الخلود
فيها، تاركا لطلب العلم، غافلا عن معرفة حقائق الأشياء، مهملا لرياضة النفس،
متوانيا في الاستعداد للرّحلة إلى الدّار الآخرة، حتى إذا فني العمر و قرب الأجل،
و جاءت سكرة الموت التي هي مفارقة النفس الجسد، ثمّ خرج من هذه الدّار جاهلا لم
يعرف صورتها، و لم يفكّر في الآيات التي في آفاقها، و لا اعتبر أحوال موجوداتها، و
لا تأمّل الأمور المحسوسة التي شاهد فيها، فمثلهم مثل قوم دخلوا إلى مدينة ملك
عظيم حكيم عادل رحيم قد بناها بحكمته، و أعدّ فيها من طرائف صنعته ما يقصّر الوصف
عنها إلّا بالمشاهدة لها، و وضع فيها مائدة قوتا للواردين إليها و زادا للرّاحلين
عنها، ثم دعا عبادا له إلى حضرته ليمنحهم بالكرامة، و أمرهم بالورود إلى تلك
المدينة في طريقهم، لينظروا إليها و يبصروا ما فيها، و يتفكروا في عجائب مصنوعاته
و يعتبروا غرائب مصوّراته، ليروض بها نفوسهم، فيصيرون برؤيتها و معرفتها حكماء
أخيارا، فضلاء، فيصلون إلى حضرته، و يستحقون كرامته، فوردها قوم ليلا فباتوا طول
ليلتهم مشغولين بالأكل و الشّرب و اللّعب و اللّهو، ثم خرجوا منها سحرا لا يدرون
من أيّ باب دخلوا، و لا من أيّها خرجوا، و لا رأوا مما فيها شيئا من آثار