و إذ قد ذكرنا طرفا من الهندسة الحسّية شبه المدخل و المقدّمات،
فنريد أن نذكر طرفا من الهندسة العقليّة، إذ كانت هي أحد أغراض الحكماء الراسخين
في العلوم الإلهيّة، المرتاضين بالرياضيات الفلسفية، و ذلك أن غرضهم في تقديم
الهندسة بعد علم العدد هو تخريج المتعلّمين من المحسوسات إلى المعقولات، و ترقيتهم
لتلاميذهم و أولادهم من الامور الجسمانية إلى الأمور الروحانيّة.
فاعلم يا أخي، أيّدك اللّه و إيانا بروح منه، أن النظر في الهندسة
الحسيّة يؤدّي إلى الحذق في الصنائع العمليّة كلّها؛ و النّظر في الهندسة العقلية
يؤدّي إلى الحذق في الصنائع العلميّة. لأن هذا العلم هو أحد الأبواب التي تؤدّي
إلى معرفة جوهر النفس التي هي جذر العلوم و عنصر للحكمة، و أصل الصنائع العلمية و
العملية جميعا، أعني معرفة جوهر النفس، فاعلم جميع ما قلنا.
فصل في توهّم الابعاد
الخطّ العقليّ لا يرى مجرّدا إلّا بين السطحين، و هو مثل الفصل
المشترك الذي هو بين الشمس و الظّلّ. و إذا لم يكن شمس و لا فيء لم تر خطّا
بنقطتين وهميّتين. فاذا توهّمت ان قد تحركت إحدى النّقطتين و سكنت الأخرى، حتى
رجعت إلى حيث ابتدأت بالحركة، حدث في فكرك السطح.
و السطح العقلي أيضا لا يرى بمجرّده إلّا بين الجسمين، و هو الفصل
المشترك بين الماء و الدّهن. و النّقطة العقليّة لا ترى أيضا بمجرّدها إلّا حيث
ينقسم الخطّ بنصفين بالوهم، أي موضع وقعت للإشارة إليها فهي تنتهي هناك.