(و من أخلاقهم رضي اللّه تعالى عنهم):
شدة علمهم على رقة حجابهم حتى يصير أحدهم يرى الآخرة و نعيمها بعين قلبه، و ذلك
ليصح زهده في الدنيا و يتفرغ للآخرة و إلا فمن حجب رؤية الآخرة فبعيد عليه الزهد
في الدنيا، و كان عبد اللّه بن سلام رضي اللّه عنه يقول:
من أراد أن يزهد في الدنيا من غير أن يرى الآخرة بين يديه فقد رام
المحال، و كان أبو واقد الليثي رحمه اللّه تعالى يقول: لقد كابدنا الأعمال فلم نجد
في أعمال الآخرة عملا أبلغ من الزهد في الدنيا.
و قد سمع مالك بن دينار رحمه اللّه تعالى رجلا يقول: لو أعطاني اللّه
تعالى في الجنة بيتا صغيرا لرضيت به، فقال له مالك ليتك يا أخي زهدت في الدنيا كما
زهدت في الجنة، و قد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه اللّه تعالى يقول: ما طلب سليمان
بن داود عليهما الصلاة و السلام ملكا لا ينبغي لأحد من بعده إلا ليتحقق بمقام
الزهد لأن الزهد مع وجود الدنيا أعظم ممن كان زهده فيها مع الفقد.
و كان أبو الدرداء رضي اللّه عنه يقول: لو حلف حالف أن الزاهد في
الدنيا خير الناس لقلت له صدقت لا تكفر عن يمينك، و كان الإمام الشافعي رضي اللّه
عنه يقول: لو أوصى رجل بمال إلى أعقل الناس لصرفته إلى الزاهد في الدنيا اه.
و كان الحسن البصري رحمه اللّه تعالى يقول: يحشر الناس كلهم عراة إلا
الزاهد في الدنيا، كان شقيق البلخي رحمه اللّه تعالى يقول: الزاهد الصادق يقيم
زهده بفعله و المتفعل يقيم زهده بقوله من غير فعل، و قد قال رجل لسفيان بن عيينة
رحمه اللّه تعالى أشتهي أن أرى عالما زاهدا في الدنيا فقال له: تلك ضالة لا توجد
الآن لأن الزهد لا يكون إلا في الحلال المحض و أين يوجد ذلك حتى إن الإنسان يزهد
فيه.
(قلت) إن الحلال موجود و المقامات موجودة و لكن حلال كل إنسان و
مقامه على قدر حاله و لذلك طلب الشارع صلى اللّه عليه و سلم منا أن نأكل حلالا و
نتأسى به في الأخلاق و المقامات و لو لا وجود الحلال و إمكان الترقي لبطلت الأحكام
الشرعية من قرون متعددة قائمة إلا من يأكل حلالا و يخاف اللّه عز و جل و يزهد و
يتورع و لكن على قدر حظه و نصيبه فلعل قوله لم يوجد الحلال على سبيل المبالغة و
اللّه أعلم.
و قد كان عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه يقول: من كان أكثر الناس
زهدا في الدنيا فهو