الوفاة بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: بعد
السفر، و قلة الزاد، و ضعف اليقين، و خوف الوقوع من الصراط في النار انتهى.
فتأمل يا أخي نفسك فإنك محتضر على الدوام ليس في يدك نفس واحد يطلع
ينزل و أكثر من الاستغفار آناء الليل و أطراف النهار فإنك على شفا جرف هار و اللّه
يتولى هداك، و هو يتولى الصالحين، و الحمد للّه رب العالمين و عليه الاعتماد.
كثرة الاعتبار
(و من أخلاقهم رضي اللّه تعالى عنهم):
كثرة الاعتبار و البكاء و الاهتمام بأمر الموت إذا رأوا جنازة، و قد كان أبو هريرة
رضي اللّه عنه إذا رأى أحدا يحمل جنازة يقول لها: امض إلى ربك فإنا على أثرك
ماضون، و كان مكحول الدمشقي يقول إذا رأى جنازة: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة
قليلة و غفلة شنيعة يذهب الأول و الآخر لم يعتبر، و كان يظل كأنه لا عقل له مدة أيام،
و كان أسيد بن حضير يقول: ما حدثتني نفسي قط عند رؤية الجنازة إلا بما الميت صائر
إليه، و ربما ترك الأكل و الشرب أياما و خرج مرة في جنازة فلما أدخلوا الميت القبر
غشي عليه فما رجعوا به إلى بيته إلا في النعش.
و خرج مالك بن دينار في جنازة أخ له فبكى و قال: و اللّه لا تقر عيني
حتى أعلم ما صار إليه أخي، و كان الأعمش يقول: كنا نشهد الجنائز و لا نعرف من يعزي
لأن الحزن قد عم الناس كلهم، و كان ثابت البناني يقول: كنا نشهد الجنائز فلا نرى
إلا متلفعا باكيا، و مر إبراهيم الزيات على جماعة يترحمون على ميت فقال لهم: خافوا
على أنفسكم خير لكم، فإن ميتكم قد جاوز ثلاثا: رؤية ملك الموت، و ذوق مرارة الموت،
و أمن من سوء الخاتمة.
و حضر عمر بن ذر جنازة رجل كان مسرفا على نفسه و تحاشى الناس أن
يحضروا جنازته من شدة إسرافه، فلما دلوه في القبر قال له عمرو رحمك اللّه يا فلان
محيت التوحيد و عفرت وجهك بالتراب و إن كانوا قالوا عليك إنك مذنب كثير الخطايا،
فمن هو منا لم يذنب و لم يخطئ فبكى من كان حامل النعش.
فاعلم يا أخي ذلك و اعتبر كما اعتبر هؤلاء و أكثر من البكاء و النحيب
فإن بين يديك من الأهوال ما لا يوصف، و الحمد للّه رب العالمين.