وكم
رأينا من قوم دخلوا في العلوم على غرّة فيها وجهل بمبادئها وعدم تلقّىً لها من
جهابذتها ونُطّاسها[1] الخبيرين
بطرقها ومسالكها، فجعلوا أُولئك يرتقون ويفتقون ويحكمون فيها بما يشاؤون من تلقاء
أنفسهم ومن عند فطير أفكارهم ضدّ فطرتهم، يمزّقون بمخالب أوهامهم إهاب قواعد ذلك
العلم، ويهرفون على زعمائه وعلمائه بما لا يعرفون.
وما
السبب الوحيد في ذلك كلّه سوى الجهالة والخروج عن النواميس المقرّرة في تحصيل
استكمال كلّ شيء، وما هم إلّاعلى حدّ قوله:
ومن البلوى التي ليس لها في الناس كُنهٌ
أنّ من يعرف شيئاً يدّعي أكثر منهُ!
إنّ
فلاسفة المادّة وعبّاد الطبيعة بعد أن صرفوا أعمارهم وأجهدوا أفكارهم ودأبوا ليلهم
ونهارهم في علوم المادّيات واستخراج خواصّها واستخدام وسائطها، والحقّ يقال: إنّهم
بلغوا في ذلك المقام الذي لا ينكر فضلهم وتقدّمهم فيه، سوى أنّه كان من اللازم
عليهم في الإلهيات أن يدعوها لأهلها ويتركوها لعشّاقها وعبّادها الذين صنعوا فيها
ما صنعوا هم في الطبيعيات من العناء والكدّ وبذل الجدّ والجهد وصرف الأعمار والدأب
على مزاولتها وتحصيلها، ولكنّهم- بدلًا عن ذلك- باغتوها بالإنكار على حين لم تسبق
لهم من العناية بها قدر عنايتهم بأقلّ مسألة من الطبيعيات، فكأنّهم يعملون على خرق
النواميس المطّردة في سلسلة الاستكمال في كلّ شيء، فيرون أنّ الطبيعيات إنّما هي