والمغارات
الموحشة، وما عناي وهمّي إلّافي توسعة العيش وترفيه مآزق هذه الحياة ومعالجة
معامع[1] هذا
الدهر، ولا أعرف ولا أطلب شيئاً وراء ذلك.
وهذا
الصنف قد استراح إلى الجهل، وسكن إلى ظلّه، وأخمد مصباح عقله وتدرّع بلا أدري عن
كلّ واردة ترد عليه، فهو والبهيم سواء: «إِنَّ شَرَّ
الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ»[2].
وصنف
سمت همّته وكبرت نفسه عن التلوّث بهذه الرذيلة- رذيلة الجهل التي هي أُمّ الرذائل
وسمّ الفضائل- فبحث وسار ونقّب في الأثير وتطلّب الآثار وركب متن أفكاره السيّارة،
فجالت فيه حتّى وقفت به على أمر محسوس متحيّز متجرّد عن مبدأ كلّ شعور وإدراك،
فرأى أنّه هو المبدأ الأوّل لسائر المبادئ والغاية الأزلية التي ليس بعدها غاية.
واختلفت
الأسماء والعبارات عن هذا الشيء بين أهل هذا الصنف، فبعض يسمّيها: بالطبيعة،
وبعض: بالمادّة الأُولى، وآخرون: بالأثير، وقوم: بهيولى الكلّ، وطائفة تعبّر عنها:
بالدهر، أو: الجوهر، أو: الزمان، أو: القوّة والفعل[3]،
إلى غير ذلك من ألفاظ مختلفة المباني متقاربة المعاني، اتّخذوها لمواليد الأكوان
كلّها أباً وأُمّاً، وجعلوها خرقاء حمقاء، فأوسعوها لعناً وذمّاً، وبالحري لها ذلك
على ما أنتجت من هذا النتاج التعيس!
سار
هذا الصنف مع الثالث مترافقين كتفاً لكتف وجنباً إلى جنب، يتطلّبون الضالّة
المنشودة والحقيقة الضائعة، وما هي منهم ببعيدة.
[1] المعامع: الفتن، والعظائم.( القاموس المحيط 3:
88).