إن قلت: إن الخاص إذا كان بديهياً كان العام
بديهياً فلو كانت مصاديق طبيعة العلم بديهية كان العام وهو طبيعة العلم بديهية.
قلنا: المصاديق بديهية بصورتها الإجمالية دون صورتها التفصيلية وبعبارة أخرى إن
وجودها وامتيازها عما عداها بديهي لا إن حقيقتها بديهية. وأما دعوى الدور فهي
أيضاً فاسدة لأن معرفة الغير موقوفة على حصول مصاديق العلم لا على ماهيته وحقيقته
الكلية وتصور هذه الماهية وإدراكها يكون موقوفاً على التصور الجزئي لغيرها فلا
دور. وأما دعوى أن ما بالغير يرجع إلى ما بالذات وأن فاقد الشيء لا يعطيه ففاسدة
أيضاً لأنها إنما تقتضي بداهة مصاديق العلم ونحن لا ننكر ذلك وإنما كلامنا في
ماهيته وحقيقته فالحق إن مصاديقه بديهية دون حقيقته نظير ما قيل في الوجود.
ثامنها: إنا نعلم الأشياء بأعراضها كما نعلم الإنسان بالكاتب والضاحك
والعرض ليس بصورة للشيء لأن صورة الشيء جزءه كما صرح به الحكماء والمتكلمون من
أن الشيء مركب من المادة والصورة فكيف يصح تعريفهم للعلم بالصورة الحاصلة-
وجوابه- إن المراد بالصورة هنا بقرينة التقييد بالعقل هو الصورة الذهنية وهي ما به
يمتاز الشيء عما عداه سواء كان نفس ذاته أو ماهيته أو فصله أو عرضه.
تاسعها: إنه لا يشمل هذا التعريف علم الأشياء بأنفسها لأن ظاهر
الظرفية المغايرة بين صورة الشيء والعقل وفي علم الشيء بنفسه كانت الصورة عين
العقل.- وجوابه- إن الظرفية هنا اعتبارية لكون العقل ليس بظرف حقيقي والظرفية
الاعتبارية تصح لأدنى ملابسة واعتبار فالشيء باعتبار أنه عالم ظرف وباعتبار أنه
معلوم مظروف.
عاشرها: إن العلم ضد الجهل فكيف بالصورة الحاصلة في العقل مع أن هذا
التعريف يشمل الصورة سواء كانت مطابقة أو غير مطابقة بل يشمل الشك والوهم والخيال
فإنها داخلة في مفهوم الصورة فإذا فسر العلم بها دخلت في العلم وبطل ما بينه وبين
الجهل من الضدية.- وجوابه- إن المراد بالعلم في صدر كتب المنطقيين هو ما كان
مرادفاً للتصور وإلا لما صح قولهم (وقد يقع فيه الخطأ فاحتيج إلى قانون يعصم به)
لأن العلم الذي هو ضد الجهل لا يقع فيه الخطأ أصلًا. ولما صح أن يحصل من أقسامه
الوهم والشك والتخيل وقد قيل: إن إطلاق العلم على الإدراك المطلق اصطلاح أهل
الميزان وعلى اليقين فقط عند أهل اللغة وعلى مقسم التصور واليقين اصطلاح الحكماء
وعلى الملكة اصطلاح أرباب الفن.
حادي عشرها: إنه لا يشمل العلم بالمعدومات لأنه ليست بشيء إذ
الشيئية تلازم الوجود كما قرر في الحكمة فأخذ الشيء في تعريف العلم موجب لخروج
بعض أفراده.- وجوابه- إن المراد بالشيء في تعريف العلم هو الذات أعم من الموجودة
والمعدومة وهو متعارف إطلاقه بهذا المعنى.
ولنا رسالة قد ألفناها في قديم الزمان في تعريف العلم وتقسيمه ننقلها
هنا لما فيها من تحقيق رشيق وهي بعد الحمد والثناء: إن بعض المنطقيين عرَّف العلم
بأنه الصورة الحاصلة من الشيء عند العقل. والحكماء بحصول الصورة من الشيء في
العقل وبعضهم تبعاً للمتكلمين أنه إضافة بين العالم والمعلوم وهي تعلق أحدهما
بالآخر وبعضهم فسره بعدم الجهل وبعضهم بقبول الذهن لصورة الشيء من المبدأ الفياض
وانتقاش النفس بها وبعضهم بإحاطة الذهن بصورة الشيء وبعضهم بانكشاف الواقع
انكشافاً تاماً كما هو غير مجامع لاحتمال الخلاف وبعضهم بما اقتضى سكون النفس كما
نقل عن أبي جعفر الطوسي وبعضهم باعتقاد الشيء على ما هو به مع طمأنينة النفس كما
عن المعتزلة.