إذا عرفت هذا فنقول: إن الموضوع إنما يذكر
في مقدمة الشروع إنما هو باعتبار تمييزه للعلم عما عداه كما يظهر ذلك من بيان وجه
توقف الشروع على بصيرة عليه والتمييز بالشيء إنما يحصل بتصور المميز لا بالتصديق
فلا معنى لعد التصديق بالموضوعية من مقدمات الشروع. وهذه الشبهة اختلجت بالبال وقد
قررناها لبعض المحققين فلم يطق الجواب عنها ولكن بعد هذه انكشف لنا صحة ما ذهب
إليه المنطقيون وذلك لأن المميز إن كان وجهاً للمميز (بالفتح) بأن كان تعريفاً له
فالأمر كما ذكر بأنه بتصوره يتصور المعرف (بالفتح) لأنه وجهاً له وعنواناً حاكياً
عنه وأما إذا لم يكن وجهاً ولا تعريفاً ولا منطبقاً عليه كما هو شأن الموضوع
بالنسبة إلى العلم فلا يكفي تصوره في التمييز لأن تصور نفسه لا علاقة له بالعلم
وتصور موضوعيته بدون التصديق بها لا يوجب أن يكون منفرداً عن سائر العلوم بهذا
الموضوع عند المتصور بل تكون نسبته إلى سائر العلوم على حد سواء فلا بد من التصديق
بموضوعيته له فإنه هو الذي يميزه فالتصديق بموضوعية الكلمة للنحو هو الموجب لتمييز
النحو عما عداه وهذا الأمر لا يختص بالموضوع بل كل شيء تكون نسبته هي الموجبة
لتميزه به يكون التصديق بها هو المميز عند الطالب.
وثالثاً: إنه اشتهر عند المتأخرين من أن الموضوع ليس بمميز للعلم
وإنما المميز له الأغراض الداعية إلى تدوينه وإلا لكان كل باب من كل علم علماً على
حدة لتغاير موضوعاتها كما هو واضح.
ولا يخفى بطلانه لأن مميز الشيء إنما يوجب تمييزه عما عداه في القدر
المشترك بينهما وليس بعلة موجدة للقدر المشترك فإذا قلنا: اللونية تميز الإنسان
بعضه عن بعض فمعناه أن أفراد الإنسان تمتاز عما يشاركها في الإنسانية باللونية
وليس معناه أن اللونية أينما وجدت وجب عد الشيء إنساناً وهكذا إذا قلنا أن
التعريف مميز للعلم معناه أنه يميز كل علم عما يشاركه في كونه علماً وليس بموجب
لعد كل معرف علماً حتى لو كان المعرف موضوعاً خارجياً. فالموضوع أيضاً كذلك فإنه
يميز علماً عن علم في أمر اشتركا فيه وهو كون كل منهما علماً محتوياً على مسائل
متعددة ويميز مسألة عن أخرى في الأمر الذي اشتركا فيه وهو كون كل منهما مسألة فليس
شأن الموضوع إلا التميز فقط بأن يميز كل شيء عما عداه فيما اشتركا فيه وليس بموجب
لعد ذلك الشيء من ذلك المشترك أينما وجد فهو علامة فارقه وليس بعلة موجدة.
ورابعاً: بعدم الدليل على وجوده حتى يجعل التمييز به.
ولا يخفى ما فيه فإنه لو سلم فالمراد بتمايز العلوم بتمايز الموضوعات
هو تمايز العلوم التي لها موضوعات كما يقال: تفاوت الرجال بتفاوت العقول وتفاضل
الأعمال بالغايات فإن المراد تفاوت الرجال العقلاء بذلك وتفاضل الأعمال المغيات
بذلك ولا إشكال في أنه أكثر العلوم لها موضوعات مضافاً إلى أن منشأ وجود الموضوع
للعلوم هو أنه لما كان كمال الإنسان معرفة أعيان الموجودات من تصوراتها والتصديق
بأحوالها بقدر الطاقة البشرية ولما كان معرفتها بأشخاصها وجزئياتها متعذر لعدم
تناهيها أخذوا المفهومات الكلية الصادقة عليها وبحثوا عن أحوالها ولما كانت
الأحوال متكثرة ومنتشرة وضبطها متعسر اعتبروا الأحوال الذاتية لكل مفهوم وجعلوها
منفردة بالتدوين فذلك المفهوم هو الموضوع للعلم وسيجيء إن شاء الله ما ينفعك هنا.
وخامساً: إنه يجوز تمايز العلوم بحسب المحمول بأن تكون محمولات العلم
راجحة إلى أمر واحد كمحمولات علم النحو فإنها ترجع إلى أمر واحد وهو الإعراب فلا
وجه