الأخرى، لأنّ جهة البحث عن كون الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة تغاير جهة البحث عن أصالة البراءة و الاشتغال من وجهين:
أحدهما: انّ البحث عن الحظر و الإباحة ناظر إلى حكم الأشياء من حيث عناوينها الأوّلية بحسب ما يستفاد من الأدلة الاجتهادية، و البحث عن البراءة و الاشتغال ناظر إلى حكم الشك في الأحكام الواقعية المترتبة على الأشياء بعناوينها الأوّلية، فللقائل بالإباحة في تلك المسألة أن يختار الاشتغال في هذه المسألة و بالعكس.
ثانيهما: أنّ البحث عن الحظر و الإباحة راجع إلى جواز الانتفاع بالأعيان الخارجية من حيث كونه تصرفا في ملك اللّه تعالى و سلطانه، و البحث عن البراءة و الاشتغال راجع إلى المنع و الترخيص في فعل المكلف من حيث إنّه فعله و إن لم يكن له تعلق بالأعيان الخارجية كالتغنّي، فتأمّل.
و قد يقال: إنّ البحث عن مسألة الحظر و الإباحة ناظر إلى حكم الأشياء قبل ورود البيان من الشارع، و البحث عن البراءة و الاشتغال بعد ورود البيان. و هذا بظاهره فاسد إن أريد من القبلية و البعدية الزمانية، إلّا أن يكون المراد أنّ البحث عن مسألة الحظر و الإباحة إنّما هو بلحاظ ما يستقل به العقل مع قطع النّظر عن ورود البيان من الشارع في حكم الأشياء، و البحث عن البراءة و الاشتغال إنّما يكون بعد لحاظ ما ورد من الشارع في حكم الأشياء، و على كل تقدير: لا تلازم بين المسألتين فضلا عن عينية إحداهما للأخرى.
نعم: من قال في مسألة الحظر و الإباحة بالحظر، عليه إقامة الدليل على انقلاب الأصل إلى البراءة، و من قال في تلك المسألة بالإباحة فهو في فسحة عن إقامة الدليل على البراءة، بل على الطرف إقامة الدليل على الاشتغال، فالذي اختار في مسألة الحظر و الإباحة أحد الطرفين قد يستغنى عن إقامة الدليل على ما يختاره في مسألة البراءة و الاشتغال و يكون على الخصم إقامة الدليل على مدّعاه، و قد لا يستغنى ذلك، فتأمّل جيّدا.