الأولى: وهي السفلى أن يزهد في الدنيا
وهو لها مشتهٍ وقلبه إليها مائل ونفسه إليها ملتفتة ولكنه يجاهدها ويكفها، وهي
الدرجة الأولى من الزهد.
الثانية: أن يترك الدنيا طوعاً لاستحقاره
إياها بالإضافة الى الآخرة المرغوب فيها، كالذي يترك درهماً لأجل درهمين، فإنه لا
يشق عليه ذلك، وهو يظن بنفسه أنه ترك شيئاً له قدر لما هو أعظم قدراً منه.
الثالثة: وهي العليا أن يزهد
طوعاً ويزهد في زهده فلا يرى زهده، إذ لا يرى أنه ترك شيئاً، حيث عرف أن الدنيا لا
شيء، فيكون كمن ترك نواة وأخذ جوهرة، فلا يرى ذلك معاوضة[1299]، وهذا كمال الزهد.
ومثله مثل من
منعه من باب الملك كلب على بابه، فألقى إليه لقمة خبز فشغله بنفسه ودخل الباب ونال
القرب عند الملك حتى نفذ أمره في جميع مملكته، أفترى أنه يرى لنفسه يداً عند الملك
بلقمة خبز ألقاها إلى الكلب في مقابلة ما ناله، فالشيطان كلب على باب الله يمنع
الناس من الدخول والدنيا كلقمة خبز يأكلها، فلذتها حال المضغ وتنقضي على القرب
بالابتلاع، ثم يبقى ثفله[1300]
في المعدة، ثم ينتهي إلى النتن والقذر ويحتاج إلى إخراج الثفل، فمن
يتركها لينال قرب الملك كيف يلتفت إليها؟!.
وينقسم الزهد قسمة أخرى بالإضافة
إلى المرغوب فيه إلى ثلاث درجات:
[1299] العوض كعنب واحد الأعواض كأعناب،وأعاضني،العوض وهو
البدل.وإعتاض:أخذ العوض. مجمع البحرين، الطريحي: 3/278، مادة "عوض".
[1300]
الثفل: ما رسب خثارته وعلا صفوه من الأشياء كلها.