هدايته]( . هذا ما أردنا من نقل ديباجة الرسالة , ثم شرع فى تحرير الفصل
الأول فقال :
الفصل الأول فى اثبات أن جوهر الناس مغائر لجوهر البدن , فنقول :
المراد بالنفس ما يشير إليه كل إحد بقول( : أنا) . و قد اختلف أهل
العلم فى أن المشار إليه بهذا اللفظ هو هذا البدن المشاهد المحسوس أو غيره .
أما الأول فقد أظن أكثر الناس و كثير من المتكلمين أن الانسان هو هذا البدن , و
كل أحد فأنما يشير إليه بقوله( : أنا) . فهذا ظن فاسد لما سنبينه .
و القائلون بانه غير هذا البدن المحسوس اختلفوا , فمنهم من قال([ : إنه
غير
جسم و لا جسمانى , بل هو جوهر روحانى فاض على هذا القلب و أحياه , و اتخذه آله
فى اكتساب المعارف و العلوم , حتى يستكمل جوهره بها , و يصير عارفا بربه ,
عالما بحقائق معلوماته , فيستعد بذلك للرجوع إلى حضرته , و يصير ملكا من ملائكته
فى سعادة لا نهاية لها , و هذا هو مذهب الحكماء الالهيين و العلماء الربانيين , و
وافقهم فى ذلك جماعة من أرباب الرياضة و أصحاب المكاشفة , فانهم شاهدوا
جواهر
أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم و اتصالهم بالأنوار الالهية . و لنا فى صحة هذا
المذهب من حيث البحث و النظر براهين :
البرهان الأول :
تأمل أيها العاقل فى أنك اليوم فى نفسك هو الذى كان موجودا جميع عمرك
حتى أنك
تتذكر كثيرا مما جرى من أحوالك , فأنت إذن ثابت مستمر لا شك فى ذلك , و بدنك
و أجزاؤه ليس ثابتا مستمرا , بل هو أبدا فى التحلل و الانتفاض . و لهذا يحتاج
الانسان إلى الغذاء بدل ما تحلل من بدنه , فان البدن حار رطب , و الحار إذا أثر
فى الرطب تحلل جوهره حتى فنى بكليته , كما يوقد عليه النار دائما فانه ينحل إلى
أن لا يبقى منه شى ء , و لهذا لو حبس عن الانسان الغذاء مدة قليلة نزل و انتقص
قريب من ربع بدنه . فتعلم نفسك أن فى مدة عشرين سنة لم يبق شى ء من أجزاء
بدنك , و أنت تعلم بقاء ذاتك فى هذه المدة , بل جميع عمرك , فذاتك مغائرة
لهذا البدن و أجزائه الظاهرة و الباطنة . فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب
فان جوهر النفس غائب عن الحواس و الأوهام . فمن تحقق عنده هذا البرهان و
تصوره فى نفسه تصورا حقيقيا فقد أدرك ما غاب عن غيره .