إنّ
أهمّ دافع جعل الإمام عليه السلام يسلب عن نفسه العلم بالغيب، هو الظرف الخاصّ
الذي عاشه الإمام في ذلك الزمان و الذي شهد تفتّح آفاق العلم، لينهمك الإمام في
بيان أحكام الإسلام و حقائق القرآن و نشر العلم و تفادي كلّ ما من شأنه أن يحول
دون القيام بهذه الوظائف. كان خليفة زمانه الطاغية السفّاح المنصور الدوانيقي الذي
كان يتحيّن الفُرَص لقتل الإمام و إزالة هذه العقبة عن طريقه. كان الإمام شديد
الحرض على عدم اثارة مثل هذه المواضيع التي تؤلّب ذلك الجبّار الغاشم من أجل
تصفيته و القضاء عليه، الأمر الذي يعني الحيلولة دون نشر معارف الدين و الأحكام.
فلو قال الإمام: أنا عالم بالغيب جدير بالإمامة و الخلافة، لكان ذلك كافياً لسلّ
المنصور سيفه و قتله، و عليه فلا ينبغي أن يشيع هذا الأمر بين الأوساط
الاجتماعيّة، و يكفي أن يعلم ذلك بعض خواصّه و حملة أسراره، و سوف لن تستطيع
الغربان أن تحجب الشمس إلى الأبد، فلا بدّ للّيل أن ينجلي و لا بدّ للطوق أن
ينكسر. و لنعد ثانية إلى مجلس الإمام: لقد اجتمعت أُمّة عظيمة في مجلس الإمام
عليه السلام، و كلام الإمام يفيد أنّ علمه بالغيب قد شاع في المدينة، و أنّ الألسن
تتناقل علم الإمام بالغيب، و قطعاً كان الأمر قد بلغ المنصور. فما أحسن هذه الفرصة
التي تجعل الإمام يتصدّى للدفاع عن نفسه فيستدلّ بمثل بسيط يقنعهم بعدم علمه
بالغيب، و لم يكن هنالك أعمق من ذلك المثال الذي اعتمده الإمام للقضاء على تلك
الشائعة. أنّى للإمام العلم بالغيب و هو الذي عجز عن العثور على جارية في غرفة من
غرف داره؟! لا شكّ أنّ ذلك الكلام سيؤثّر كثيراً و يؤتي أُكله، كما لا شكّ أنّ
جلاوزة المنصور- الذين لم ينفكّوا عن تفتيش دار الإمام- سينقلون كلامه إلى
المنصور