ثمّ عطف على
قصّة موسى قصّة داود وسليمان ، الّتي هي أخت قصّة موسى في مزيّة تضمّن العلم
والحكمة والفضل من بين سائر الأقاصيص ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا
داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) طائفة من العلم. وهو علم الحكم والشرائع. أو علما أيّ
علم. وهو العلم بالقضاء بين الخلق ، وبكلام الطير والدوابّ ، وبتدابير الملك ،
وإلانة الحديد ، وتسخير الشياطين والجنّ والإنس.
(وَقالا الْحَمْدُ
لِلَّهِ) عطفه بالواو دون الفاء ـ كما هو مقتضى الظاهر من المقام
، لترتّب الحمد على النعمة ـ إشعارا بأنّ ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه
النعمة. فكأنّه قال : ولقد آتيناهما علما فعملا به ، وعرفا حقّ النعمة فيه
والفضيلة ، وقالا : الحمد لله (الَّذِي فَضَّلَنا
عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : من لم يؤت علما ، أو مثل علمهما.
وفيه دليل على
فضل العلم ، وشرف أهله ، وإنافة محلّه ، وتقدّم حملته ، وأنّ نعمة العلم من أجلّ
النعم ، وأجزل القسم ، حيث شكرا على العلم ، وجعلاه أساس الفضل ، ولم يعتبرا دونه
ممّا أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما. وتحريض للعالم على أن يحمد الله على ما
آتاه من فضله ، وأن يتواضع ويعتقد أنّه وإن فضّل على كثير فقد فضّل عليه كثير.
(وَوَرِثَ سُلَيْمانُ
داوُدَ) النبوّة ، أو العلم ، أو الملك ، فإنّه قام مقامه في
ذلك دون سائر بنيه ، وكانوا تسعة عشر (وَقالَ يا أَيُّهَا
النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) تشهيرا لنعمة الله ، وتنويها بها ، واعترافا بمكانها ،
ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي منطق الطير ، وغير ذلك من عظائم ما
أوتيه.
وإنّما قال : «علّمنا»
، مع أنّ ظاهره من كلام المتكبّرين ، لوجهين : أحدهما : أنّه يريد نفسه وأباه.
والثاني : أنّ هذه النون يقال لها : نون الواحد المطاع ، وكان ملكا مطاعا ، فكلّم
أهل طاعته على صفته وحاله الّتي كان عليها. وليس التكبّر من