واعلم أنّ الله
سبحانه لمّا ختم سورة القصص بذكر الوعد والوعيد ، افتتح هذه السورة بذكر تكليف
العبيد ، فقال : (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَحَسِبَ النَّاسُ) الهمزة للإنكار والتوبيخ. ولا يتعلّق بمعاني المفردات ،
بل بمضامين الجمل ، للدلالة على جهة ثبوتها ، ولذلك اقتضى مفعولين متلازمين ، أو
ما يسدّ مسدّهما ، كقوله تعالى : (أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ
يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) فإنّ معناه : أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم : آمنّا.
فالترك أوّل مفعولي «حسب». و «لقولهم آمنا» المفعول الثاني. وأمّا «غير مفتونين»
فمن تتمّة الترك الّذي بمعنى التصيير ، كقوله [١] : فتركته جزر السباع ينشنه.
ألا ترى أنّك
قبل المجيء بالحسبان تقدر أن تقول : تركهم غير مفتونين ، لقولهم : آمنّا ، على
تقدير : حاصل ومستقرّ قبل اللام. كما تقول : خروجه لمخافة الشرّ ، وضربه للتأديب.
وقد كان التأديب والمخافة في قولك : خرجت مخافة الشرّ وضربته تأديبا ، تعليلين.
وتقول أيضا : حسبت خروجه لمخافة الشرّ ، وظننت ضربه للتأديب. فتجعلهما مفعولين ،
كما جعلتهما مبتدأ وخبرا.
والفتنة :
الامتحان بمشاقّ التكاليف ، كالمهاجرة ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، وو
وظائف الطاعات ، وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ، ليتميّز المخلص من المنافق ،
والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر عليها إلى الدرجات ، فإنّ
مجرّد الإيمان وإن كان عن خلوص ، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
ومعنى الآية :
أحسب الّذين أجروا كلمتي الشهادتين على ألسنتهم ، وأظهروا القول بالإيمان ، أنّهم
يتركون بذلك غير ممتحنين ، بل يمتحنهم الله بضروب المحن
[١] لعنترة بن شدّاد
، وعجزه : يقضمن حسن بنانه والمعصم ، انظر ديوانه (طبعة دار بيروت) : ٢٦.