تعالى : (فَلَمَّا ذَهَبُوا
بِهِ)[١] ، للإيجاز وأمن الإلباس ، كأنّه قيل : فلمّا أضاءت ما
حوله خمدت فبقوا متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء.
وإسناد الإذهاب
إلى الله تعالى إمّا لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر ، أو
للمبالغة ، ولذلك عدّي الفعل بالباء دون الهمزة ، لما فيها من معنى الاستصحاب
والاستمساك ، يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل
له ، فهو أبلغ من الإذهاب. ولذلك عدل عن الضوء الّذي هو مقتضى قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ) إلى النور ، فإنّه لو قيل : ذهب الله بضوئهم ، احتمل
ذهابه بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمّى نورا ، والغرض إزالة النور عنهم رأسا
، ألا ترى كيف قرّر ذلك وأكّده بقوله : (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) فذكر الظلمة الّتي هي عدم النور بالكلّية ، وجمعها ،
ووصفها بأنّها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبح أصلا. و «ترك» في الأصل بمعنى : طرح
وخلّى ، وله مفعول واحد ، وإذا ضمّن معنى «صيّر» تعدّى إلى مفعولين ، وجرى مجرى
أفعال القلوب ، كقول عنترة [٢] :
فتركته جزر السّباع ينشنه ...
أي : طعمة
السباع يأكلنه. ومنه قوله تعالى : (وَتَرَكَهُمْ فِي
ظُلُماتٍ). أصله : هم في ظلمات ، ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين.
والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا؟ أي : ما منعك؟ لأنّها تسدّ البصر
وتمنع الرؤية. وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة. أو ظلمة
الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمد. أو ظلمة شديدة كأنّها ظلمات
متراكمة بعضها فوق بعض.