إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ، وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ، أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ. وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوانِ، أَبْيَضُ يَقَقٌ. فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ. وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَقَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ، وَ عَلاهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ وَ بَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ فَهُوَ كالْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ، لَمْ تُرَبّها أَمْطَارُ رَبِيعٍ وَ لَا شُمُوسُ قَيْظٍ.
وَ قَدْ يَتَحَسَّرُ مِنْ رِيشِهِ، وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ، فَيَسْقُطُ تَتْرَى، وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً، فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ، ثُمَّ يَتَلَاحَقُ نامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ، قَبْلَ سُقُوطِهِ. لَايُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ، وَ لَايَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ. وَ إِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ أَرَتْكَ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً، وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً، وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً. فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ، أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ، أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ.
وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَ الْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ! فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ، فَأَدْرَكَتْهُ مَحدُوداً مُكَوَّناً، وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً. وَ أَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ، وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ!
صغار المخلوقات
سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ وَ الْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُمَا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَ الْفِيَلَةِ! وَ وَأى عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ، إِلَّا وَ جَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ، وَ الْفَنَاءَ غَايَتَهُ.