وهناك خلاف بين هذه التعاريف، بل يصل أحياناً إلى التضادّ، لأنّه كما يلاحظ في
هذه التعاريف، أنّ بعضها يشكّل المجتهد أو عقل المجتهد محوراً أساسياً للتعريف،
كالتعريف الأول والثاني. ولكنّ التعاريف الأخرى لا تملك هذه الخصوصية، وكذلك
فطبقاً لبعض التعاريف، فالاستحسان يقع في النقطة المقابلة للقياس، وطبقاً لبعض آخر
فالاستحسان يعدّ نوعاً من القياس، ولعل أشهر معنى للاستحسان هو: الحكم الذي لم يرد
فيه نصّ، ولكنّ عقل المجتهد يقبله ويرضاه.
والاستحسان في نظر أبيحنيفة حجّة، وقد نسب هذا القول أيضاً إلى مالك
والحنابلة [2]. وهناك
جملة معروفة عن مالك هي قوله: إنّ تسعة أعشار الفقه، استحسان. ولكن في مقابل ذلك
فإنّ بعض أهل السنّة وخاصّة الشافعيّ [3] وكذلك بعض الحنفية (كالشاطبي والطحاوي) أنكروا حجّيته [4] والاستحسان
باطل أيضاً في نظر الإماميّة والزيديّة والظاهريّة ولا اعتبار له [5].
وقد استدلّوا لحجّية الاستحسان ببعض الآيات والروايات، فمن القرآن، بالآيات 17
و 18 من سورة الزمر وكذلك الآية 55 من هذه السورة أيضاً:
وكذلك استدلّوا بالآية 145 من سورة الأعراف حيث يقول تعالى: «... فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا
بِأَحْسَنِهَا».
ففي هذه الآيات كما هو الملاحظ، تدعو إلى اتّباع «القول الأحسن» وفي الآية
الثانية والثالثة تأمر بذلك وتقرّر أنّ اتباع الحسن متفرّع على معرفة الأحسن، ومن
جهة أخرى إنّ مصاديق الأحسن لم تبيّن للناس، إذن فمعرفة الأحسن قد فوّض للناس
أنفسهم [6].
ويقول «الغزالي» في الجواب عن هذا الاستدلال:
«إنّ مفاد الآيات ليس هو أن تعملوا
بما تتصوّرونه حكماً، بل يجب عليكم اتّباع الأحسن الواقعيّ، وأنّ اللَّه تعالى قد
بيّن الطريق لمعرفة الأحسن الواقعي وذلك بموافقة الكتاب والسنّة، لأنّ الأحكام
تابعة للمصالح والمفاسد التي يحيط بها الشرع وليس لعقل البشر طريق إلى ذلك (سوى في
موارد خاصّة) وأمّا اتّباع ما يتصوّره الناس حسناً، فليس سوى اتّباع الهوى» [7].
وقد استدلّوا لحجّية الاستحسان أيضاً برواية عبداللَّه بن مسعود:
«ما رأى المُسلمون حَسَناً فهو عند
اللَّه حسنٌ» [8].
ويجيب مخالفو الاستحسان عن الاستدلال بهذا الحديث، بما يلي:
1. إنّ هذه الجملة من كلام عبداللَّه بن مسعود، لا من كلام النبيّ صلى الله عليه
و آله ليكون حجّة، إلّاأن يقال بأنّ قول الصحابيّ حجّة.
2. ظهور كلمة الرؤية (ما رأى المسلمون ...) في العلم والاطمئنان، أي أنّ ما
قطع به المسلمون بأنّه حسن فهو عند اللَّه حسن، ولا يشمل الاستحسان الظنّي الذي هو
مورد البحث.