هذا و الأولى بعد تعارض الأخبار في هذا الباب أن يقال: إنّ الكذب إنّما يكون
فيما إذا لم تكن هناك قرائن محفوفة بالكلام تدلّ على كون المراد منه الاستهزاء
بالأصنام أو شبهه، أو الكناية عن عدم قدرتها على شيء و إلّا لم يقع مصداق الكذب
كما مرّ شرحه آنفا.
المقام السّادس: في مسوغات الكذب
الأوّل من مسوغات الكذب: ما كان للضرورة
الذي يظهر من كلماتهم أنّ العناوين المحرّمة على قسمين: ما يكون قبحه ذاتيا لا
يختلف بالوجوه و الاعتبار، و مثّلوا له بالظلم، و ما يختلف بذلك و جعلوا الكذب
منها.
و لكن هذا التقسيم قابل للتأمّل، لأنّ كلّ شيء غير الكفر و هدم الدين- الذي
هو أكبر الكبائر- ليست حرمته ذاتية حتّى لو كان ظلما، فلذا يجوز أكل مال الغير في
المخمصة، و الهجوم على المسلمين إذا تترّس الكفّار بهم في الحرب بشرائطه مع أنّ
وقوع الظلم عليه حينئذ واضح، و لو اجيب عن الأوّل، فلا يمكن الجواب عن الثاني، نعم
وجود الغرض الأهمّ رخّص هذا الظلم.
فغالب المحرّمات أو جميعها إلّا ما ذكر يكون جائزا عند طروّ عنوان أهمّ منه، و
الكذب منه قطعا، و بعبارة اخرى عند دوران الأمر بين أمرين محرّمين يؤخذ بالأقوى
منهما فيترك و يعمل بالآخر، و كذا إذا دار الأمر بين محرّم و واجب، و هناك كثير من
الواجبات و المحرّمات أقوى ملاكا من الكذب، فيجوز ارتكاب الكذب لحفظها.
و هذا هو الدليل العمدة في هذا الباب، و الاضطرار و الإكراه و دوران الأمر بين
الأمرين كلّها، تندرج تحت عنوان الضرورة، خلافا لبعض الأعلام.
و هناك روايات كثيرة و بعض الآيات تدلّ على جواز ذلك أيضا، مضافا إلى الإجماع
المعلوم حاله في أمثال المقام.
أمّا من الآيات فقد استدلّ له بقوله تعالى: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ
أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ...[1].