إلى اللّه من حوله و قوته، و ألجأ إلى حولي و قوتي اني لصادق فيما أقول، فقال المنصور:
احلف بما استحلفك به أبو عبد اللّه، و حلف الرجل بهذه اليمين.
و قال راوي الخبر: فلم يستقم الكلام حتى أجذم و خر ميتا، فراع أبا جعفر ذلك و ارتعدت فرائصه، و قال: يا أبا عبد اللّه، سر من غد إلى حرم جدك إن اخترت ذلك، و إن اخترت المقام عندنا لم نأل في إكرامك و برك، فو اللّه لا قبلت قول أحد بعدها أبدا.
و أبو عبد اللّه جعفر الصادق كان إذا التقى بأبي جعفر المنصور يقول الحق تصريحا و تلميحا. و
يروى أن ذبابا حام حول وجه المنصور حتى أضجره، و أبو عبد اللّه في المجلس، فقال: يا أبا عبد اللّه لم خلق اللّه الذباب؟ فقال الصادق رضي اللّه عنه: ليذل به الجبابرة،
و إن هذا التلويح بما كان عليه أبو جعفر من استبداد، و ما اتسم به حكمه من شدة.
و
قد كتب إليه المنصور قائلا: لم لا تغشانا كما يغشانا الناس؟ فأجابه الصادق: ليس لنا ما نخافك من أجله، و لا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له، و لا أنت في نعمة فنهنيك، و لا نراها نقمة فنعزيك.
فكتب: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه: من أراد الدنيا لا ينصحك، و من أراد الآخرة لا يصحبك.
و انتهت المكاتبة عند هذا. و قال المنصور بعد الكتاب الأخير: و اللّه لقد ميز عندي من يريد الدنيا ممن يريد الآخرة، و إنه ممن يريد الآخرة، و لا يريد الدنيا.
و هكذا نجد أبا جعفر بالنسبة للإمام الصادق بين الشك و الإجلال، و بين الاتهام و التقدير، يثير الاتهام احترام الناس للصادق و افتتان الناس به، و يطفئه انصراف الإمام الميمون المبارك إلى الآخرة و تركه شئون الدنيا و أهلها، و انتهى أمره إلى الإجلال و التقدير، و ربما ذهب عنه الوسواس بعد أن استقر ملكه، و استقام أمر الدولة له، و لم يعد له منافس.
و يروى أنه حزن عند ما بلغته وفاته، و بكى حتى اخضلت لحيته، و
قد قال اليعقوبي في تاريخه: قال إسماعيل بن علي: دخلت على أبي جعفر يوما، و قد اخضلت لحيته بالدموع، و قال لي: أما علمت ما نزل بأهلك؟ فقلت: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: فإن سيدهم و عالمهم