[المقدمة] المقدمة إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله، وأصحابه، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أَمَّا بعد: فلقد أرسل الله عَزَّ وجَلَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فهو رحمة للإنس، والجن، مؤمنهم وكافرهم؛ يدعوهم إلى الله؛ ليخرجهم من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى له: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ، وقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وحجة على خلقه أجمعين، وهو مِنَّةٌ من الله تعالى على المؤمنين، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164] ، وعن أبي نضرة قال: «حدثني من سمع خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق فقال: يا أيها الناس إنَّ ربَّكُم واحد، وإنَّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتَّقوى» (¬1) . وهذا فيه الدلالة الواضحة على أنه لا فرق بين الناس إلا بالتقوى، فكلما كان الإنسان لله أتقى فهو أفضل، من أي الأجناس أو الألوان كان. وقد مَنَّ الله تعالى على هذا النبي الكريم بمكارم الأخلاق كلِّها؛ فإنه لا يُحصى من دخل في الإسلام بسبب خُلُقه الكريم صلى الله عليه وسلم سواء كان ذلك الخُلُق الحسن الكريم: من جوده، أو كرمِهِ، أو عفوهِ، أو صفحِهِ، أو حلمِهِ، أو أناتِهِ، أو رفقِهِ، أو صبرِهِ، أو تواضُعِهِ، أو عدلِهِ، أو رحمتِهِ، أو منِّهِ، أو شجاعته وقوَّتِهِ، أو غير ذلك من مكارم الأخلاق. ومن تتبَّع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان يلازم الخُلُق الحسن في سائر أحواله، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، بفضل الله ثم بفضل حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم، فكم دخل في الإسلام بسبب حُسْنِ خُلُقِهِ صلى الله عليه وسلم. فهذا ثُمامةُ بن أُثال يُسلِمُ بسبب عفو النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: (والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهِكَ، فقد أصبح وجهُك أحب الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان على وجه الأرض دين أبغض إليَّ من دينك، وقد أصبحَ دينُك أحبَّ الأديانِ كلِّها إليَّ، والله ما كان على وجه الأرض بلادٌ أبغض إليَّ من بلادك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلِّها إليَّ) (¬2) . وهذا أعرابي يقول: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا؛ لأنه تأثر بعفو النبي صلى الله عليه وسلم عندما بال هذا الأعرابي في المسجد، ولم يتركه على تحجيرهِ رحمة الله التي وسعت كل شيء؛ بل قال له ناصحًا ومُعلِّمًا صلى الله عليه وسلم: «لقد حجَّرتَ واسعًا» (¬3) . وذاك معاوية بن الحكم يرفق به النبي صلى الله عليه وسلم في تعليمه، فيقول: (فبأبي هو وأمي ما رأيتُ مُعلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، والله ما كهرني، ولا ضربني ولا شتمني) (¬4) «وأعطى صلى الله عليه وسلم رجلًا غنمًا بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا؛ فإن محمدًا يُعطي عطاءً لا يخشى الفاقة» (¬5) . «وهذا صفوان ابن أمية من صناديد قريش الكفرة يعطيه النبي صلى الله عليه وسلم مائة من الغنم ثم مائة، ثم مائة، فيقول صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما بَرِحَ يُعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليَّ» . وهذا سبب إسلام صفوان (¬6) . ومُشركٌ كافرٌ آخرُ يُريدُ قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف فيعصم الله رسوله صلى الله عليه وسلم منه ويعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم (¬7) فيرجع إلى قومه ويُسلم، ويدعوهم إلى الإسلام فأسلم من قومه على يديه خَلْقٌ كثير (¬8) . «وهذا عبد الله بن سلام اليهودي الحبر العالم من علماء اليهود يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه إلى المدينة يقول عبد الله رضي الله عنه: فجئتُ في الناس لأنظر، فلما تبيَّنْتُ وجهَهُ عَرفْتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، فكان أوَّل شيء سمعته يقول: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعِمُوا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» (¬9) . وهذا زيد بن سعية اليهودي يختبر النبي صلى الله عليه وسلم فيعفو عنه النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر عمر أن يعطيه عطاءً، فيقول زيد اليهودي الحبر: " ما من علامات النبوة شيءٌ إلا وقد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرتُ إليه إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمُهُ جهله، ولا تزيده شدَّةُ الجهل إلا حلمًا، وقد اختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا، وأشهدك أنَّ شطر مالي صدقة على أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم " (¬10) . وهذا يهودي آخر يقول عند الموت: والذي أنزل التوراة إنَّا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنَّك رسول الله (¬11) . وهذا ملك النصارى النجاشي في الحبشة عندما سمع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: إن عيسى عبد الله ورسوله فقال لوفد النبي صلى الله عليه وسلم: مرحبًا بكم، وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بَشَّرَ به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقَبِّلَ نعله (¬12) . وهذا هرقل عظيم الروم النصراني، يقول لأبي سفيان حينما قال له: «إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يغدر، وأنه يأمر بعبادة الله وحده، وعدم الشرك به، وينهى عن عبادة الأوثان، ويأمر بالصلاة، والصدق، والعفاف، قال هرقل لأبي سفيان: فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدميَّ هاتين، وقد كُنتُ أعلم أنه خارج لم أكن أظنُّ أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشَّمْتُ لقاءَهُ، ولو كُنتُ عنده لغسلت عن قدمه» (¬13) . وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وصدق النبي الكريم إذ يقول: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّم مكارم الأخلاق» (¬14) . «وسُئِلَتْ عائشةُ رضي الله عنها عن خُلُق النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» (¬15) . ولأهمية معرفة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، التي هي الأصل الثاني من الأصول الثلاثة، التي يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّمها والعمل بها، ويُسأل عنها في قبره، كتبت هذا المختصر، وسَمَّيتُهُ: (رحمةٌ للعالمين: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم) وبيَّنت فيه: نسبه صلى الله عليه وسلم، ونشأته، وأخلاقه، وصفاته: الخَلْقِيَّة؛ والخُلُقيَّة، ومُعجزاته، وعموم رسالته، ووصاياه لأمته، وحقوقه على أمته صلى الله عليه وسلم، وقد قسَّمت البحث إلى المباحث الآتية: المبحث الأول: خيار من خيار "نسبه صلى الله عليه وسلم". المبحث الثاني: نشأته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث: صفاته: الخَلْقيَّة، والخُلُقيَّة صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع: اجتهاده في عبادته وجهاده صلى الله عليه وسلم. المبحث الخامس: النبي الكريم صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين. المبحث السادس: تلطفه صلى الله عليه وسلم مع الأطفال ومداعبتهم وإدخال السرور عليهم. المبحث السابع: حسن خلقه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثامن: جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع: عدله صلى الله عليه وسلم. المبحث العاشر: تواضعه صلى الله عليه وسلم. المبحث الحادي عشر: حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني عشر: أناته وتثبته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث عشر: رفقه ولينه صلى الله عليه وسلم. المبحث الرابع عشر: صبره الجميل صلى الله عليه وسلم. المبحث الخامس عشر: شجاعته صلى الله عليه وسلم. المبحث السادس عشر: حكمته صلى الله عليه وسلم في الإصلاح وجمع القلوب. المبحث السابع عشر: بلاغته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثامن عشر: معجزاته ودلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم. المبحث التاسع عشر: عموم رسالته صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس. المبحث العشرون: اعتراف المنصفين من اليهود والنصارى برسالته صلى الله عليه وسلم. المبحث الحادي والعشرون: خير أعماله خواتمها صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني والعشرون: وداعه صلى الله عليه وسلم لأمته ووصاياه في حجة الوداع. المبحث الثالث والعشرون: توديعه صلى الله عليه وسلم للأحياء والأموات. المبحث الرابع والعشرون: بداية مرضه صلى الله عليه وسلم وأمره لأبي بكر أن يُصلي بالناس. المبحث الخامس والعشرون: خطبته العظيمة صلى الله عليه وسلم ووصاياه للناس. المبحث السادس والعشرون: اشتداد مرضه صلى الله عليه وسلم ووداعه ووصيته في تلك الشدة. المبحث السابع والعشرون: وصاياه صلى الله عليه وسلم عند وفاته. المبحث الثامن والعشرون: اختياره صلى الله عليه وسلم للرفيق الأعلى. المبحث التاسع والعشرون: موته صلى الله عليه وسلم شهيدًا. المبحث الثلاثون: مَن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت. المبحث الحادي والثلاثون: مصيبة المسلمين بموته صلى الله عليه وسلم. المبحث الثاني والثلاثون: ميراثه صلى الله عليه وسلم. المبحث الثالث والثلاثون: حقوقه صلى الله عليه وسلم على أمته. واللهَ تعالى أسألُ أن يجعل هذا العمل القليل مُباركًا نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به من انتهى إليه؛ فإنه سبحانه أحسن مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أبو عبد الرحمن حرر ضحى الثلاثاء الموافق 29 / 1 / 1427هـ ¬ (¬1) مسند أحمد بترتيب البناء، 12، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 3: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬2) البخاري، برقم 4372، ومسلم 1764. (¬3) البخاري، برقم 6010. (¬4) مسلم، برقم 537. (¬5) مسلم، برقم 2312. (¬6) مسلم، برقم 2313. (¬7) البخاري مع الفتح، 6، 97، برقم 2910، ومسلم، 4، برقم 843. (¬8) فتح الباري لابن حجر، 7، وشرح النووي، 15. (¬9) الترمذي، برقم 2485، وابن ماجه، برقم 3251، وانظر: صحيح الترمذي 2. (¬10) الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر، 1. (¬11) أحمد، 5، وقوَّاه ابن كثير في تفسيره، 2. (¬12) سير أعلام النبلاء، للذهبي، 1. (¬13) البخاري، برقم 7. (¬14) البيهقي، 10، وأحمد، 2، وانظر: الصحيحة للألباني برقم 45. (¬15) مسلم، برقم 746.