على ما هو التحقيق المتقدّم سابقا أيضا هو بناء العقلاء فلا جرم نشير إلى حجيّة بنائهم في طريق الإطاعة و الانقياد من حيث استكشاف المرادات أو إحراز موضوعات التكاليف و جملة القول فيه بعد النقض عليهما بأصالة الحقيقة الّتي اعترفا بجواز التعويل عليها هو أنّ الظنّ الّذي يعملون به العقلاء في أغراضهم المهمّة و امتثال أوامر مواليهم مع إمكان تحصيل العلم يستقلّ العقل بجواز سلوكه ما لم يرد من الشارع نهي عنه بالخصوص لأنّ المكلّف إذا علم بوجود تكاليف من المولى و أراد امتثالها فلا طريق له إلى ذلك إلا بالمراجعة إلى الطّرق الّتي يسلكها العقلاء من علم أو ظنّ خاص إذ التوقيفي إنّما هو الحكم الشرعي (و أمّا) طريق إحرازه و امتثاله فهو ليس أمرا توقيفيا مأخوذا من الشارع نعم لو نهى عن بعض ما يسلكه العقلاء و خطّأهم في سلوك ذلك الطّريق لم يخرج سلوكه فحكم العقل بسلوك طريق العقلاء من الطّرق الظنية حكم تعليقي معلّق بعدم نهي منع الشارع و لا يحتاج إلى الإذن كحكمه بعدم جواز سلوك الظن الّذي لا يسلكه العقلاء مع إمكان العلم ما لم يرد من الشّارع الرّخصة فليس من الأحكام التنجيزيّة الّتي لا تقبل الردّ الشرعي كسلوك الطّريق العلمي نعم هنا كلام من جهة ورود النهي عن العمل بالظنّ في الكتاب و السّنة فإنّها بعمومها تردع عن العمل بالظّنون العقلائية و لكن يمكن الجواب عنه (أوّلا) بأنّ المتبادر من الظّن المنهيّ عنه غير الظّن العقلائية الّذي يسلكونه في المقاصد المهمّة لأنّه يجري مجرى العلم فيكون المنساق من الخطابات غيره (و ثانيا) بأن استقرار طريقة السّلف العاملين بتلك النّواهي من الصّحابة و التّابعين على العمل بالظنون العقلائية كظواهر الألفاظ مثلا دليل علمي على اختصاص تلك النواهي بغير تلك الظنون فيرجع فيه إلى ما يقضي به العقل من المنع و الجواز فتأمل حتى لا تتوهّم أن مرجع ذلك إلى التمسّك في حجية الظن العقلائي بالسّيرة أو الإجماع العملي لأن الاستدلال بالسيرة إنّما هو لإثبات حكم شرعي توقيفي و المقصود في المقام الاستدلال بها على مجرّد خروجها عن تلك العمومات فلا بدّ حينئذ في إثبات الرّدع عن العمل بالظّن المتعارف السّلوك عند العقلاء من نهي خاص متعلّق بذلك الطّريق (و ثالثا) بأنّ حرمة العمل بالظنّ إمّا لأجل كونه سببا لطرح الأصول المعتبرة أو لأجل كون التعبد بها تشريعا محرما و إلا فالعقل مستقل بعدم قبح العمل على طبق الظنّ مع عدم تفويت الواقع و شيء من الوجهين غير موجود في الظن العقلائي لأن التعبّد به لا يعدّ تشريعا إذ التشريع عبارة عن الالتزام بما لم يقم عليه طريق شرعي أو عرفي فالّذي قام عليه طريق عقلائي لا يعدّ الالتزام به تشريعا لا في العرف و لا في الشرع (و أمّا الأصول) فيمنع اعتبارها مع وجود الظّن العقلائي كما يمنع مع وجود العلم خصوصا الأصول الّتي مدركها العقل خاصة إذ العقل لا يستقلّ في موارد تلك الظنون بما يستقلّ به في غيره كالشكّ أو الظّن الّذي لا يعتدّ به العقلاء و بقية الكلام يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى و الغرض الإشارة إجمالا إلى أن ما يبتني من صور التراجيح على أصل سالم عن معارض أو بناء العقلاء لم يحسن التأمل في اعتباره و أمّا ما يبتني على صرف الغلبة ففيه أيضا تفصيل بين ما إذا كان الدّوران و التعارض بين أصلين من أصل الحقيقة كما إذا توقف رفع التنافي بين الكلامين أو بين لفظين في كلام واحد على تخصيص عام في أحدهما أو إضمار أو مجازا و تقييد في الآخر أو العكس و بين ما إذا كان المنشأ الشك في حال اللّفظ عند الواضع أو عند العرف أو عند المتكلّم كما إذا شكّ في كون اللّفظ مشتركا أو منقولا و نحوهما ففي الأوّل أيضا لا إشكال في صحّة التعويل على الغلبة لأنّها تصير سببا لكون الطّرف المقابل أظهر مثلا إذا كان التخصيص أغلب كان أصالة الحقيقة أو أصالة عدم الإضمار مثلا أظهر من أصالة العموم فإذا صار الطّرف المقابل أظهر صار من القرائن اللفظية على طرح الأصل الآخر كما في أسد يرمي إذ الوجه في كون يرمي قرينة على التجوز في الأسد دون العكس كونه أظهر في معناه بالنّسبة إلى ظهور أسد في معناه و هو الشّأن في جميع صور تعارض الظّاهر و الأظهر في كلام متكلّم واحد فيجعل الأظهر قرينة على التجوز في الظّاهر و أمّا الثاني ففي الاعتماد على الغلبة نفسها إشكال لأن غاية ما يترتب عليها صيرورة الأصل في الطّرف المقابل أقوى مثل صيرورة أصالة عدم النقل أقوى من أصالة عدم الاشتراك نظرا إلى أغلبيّته بالنّسبة إلى النقل و مجرّد الأقوائية
لا يصلح دليلا للترجيح بعد ما كان الأصل في الأصول المتعارضة التوقف نعم لو بني فيها على التخيير أمكن الأخذ بالترجيح لبناء العقلاء على العمل بأقوى الأمارتين إذا دار الأمر بينه و بين التخيير لكن قد عرفت في المرحلة الأولى أن مقتضى القاعدة في تعارض الأحوال اللّفظية و الأمارات التوقف و لا يرتفع الإشكال إلاّ بدعوى اعتبار الغلبة مطلقا في مباحث الألفاظ بحكم بناء العرف و العقلاء أو يقال إن حكمة اعتبار الأصول العدمية أيضا هي الغلبة و معلوم أنّ اعتبار الغلبة متوقف على أن لا يكون في موردها أمارة على خلافها فإذا فرضنا صورة يغلب فيها النقل كالقسم الأوّل من أقسام الدّوران بينه و بين الاشتراك فأصالة عدم النّقل حينئذ غير معتبرة لمكان الغلبة على خلافها فإذا لم يكن معتبرا وجب ترتيب أحكام المنقول على اللّفظ المشكوك في ذلك القسم كما يظهر وجهه بالتأمل و هكذا القول في سائر أقسام تعارض الأحوال لا يقال قضية ما ذكرت سقوط أصالة العموم رأسا لغلبة لحوق التخصيص بالعمومات فهذه الغلبة أمارة على التخصيص في كلّ عام فلا يجري فيه أصالة عدم التخصيص لأنا نقول غلبة تخصيص العمومات ليست أمارة شخصيّة في جزئي حقيقي من جزئيات العمومات كقوله أكرم العلماء مثلا فلا بدّ في سقوط أصالة عدم التخصيص في كلّ عام غلبة لحوق التخصيص بذلك العام و في مثله نلتزم بسقوط أصالة العموم و لذا ترى الأصحاب يتوقّفون في العمل بالعمومات الّتي خارجها أكثر من داخلها