حمل الألفاظ المجرّدة عن القرائن على المعاني الأصلية الأولية الحقيقية ليس هو الإجماع و غيره من الأدلّة الشرعية الكاشفة عن حكم تعبدي شرعي بل هي من الأصول العدمية الّتي ثبت اعتبارها ببناء العقلاء و قد ظهر ممّا ذكرنا في مسائل الدّوران أن جملة من الترجيحات مستندة إلى تلك الأصول أيضا فلا يبقى محلّ المطالبة بالدليل إلا ما عدا تلك الجملة مما لا ينهض فيه أصل معتبر سلم عن مزاحمة المعارض بالترجيح و قد ظهر أيضا أن ما عدا تلك الجملة أيضا بين ما يستند إلى بناء العقلاء و الغلبة و بين ما يستند إلى خصوص الغلبة مثلا إذا ورد عام و خاصّ متنافيا الظّاهر كقوله أكرم العلماء و لا تكرم زيدا العالم فهذا ممّا استقر فيه بناء العرف و العقلاء على ترجيح التخصيص على ارتكاب التجوز في المخصص فالترجيح في مثله أيضا مستند إلى الدّليل و هو بناء العرف و العقلاء بل يمكن الاستناد فيه إلى الأصل لأنّ الشك في التخصيص فيه مسبب عن الشكّ في التجوز فأصالة الحقيقة في المخصّص تحكم على أصالة عدم التخصيص فكلّ ما هو من هذا القبيل من الترجيحات المذكورة يشارك مع أصالة الحقيقة في الدليل سواء كان هو الإجماع أو غيره فلم يبق إلا الموارد الّتي لا مدرك للترجيح فيها سوى الظنّ الحاصل من الغلبة الّذي منع (قدّس سرّه) من اعتباره مثل ترجيح النقل على التخصيص و ترجيح التخصيص على غيره في غير مسألة العام و الخاصّ المتنافي الظّاهر و غيرهما من الترجيحات المستندة إلى صرف الغلبة فلا بدّ من إقامة الدّليل على اعتبار الغلبة في مقام ترجيح الأحوال اللّفظية بعضها على بعض (فنقول) قد استدل عليه المحقق القمّي تصريحا و تلويحا بوجوه ثلاثة (الأوّل) ما أشار إليه في ترجيح المجاز على غيره و التخصيص عليه للغلبة بقوله و أمّا حجّية هذا الظنّ أي الظنّ الحاصل من الغلبة فيدلّ عليه ما يدلّ على حجية أصالة الحقيقة مع احتمال إرادة المجاز و خفاء القرائن قال فكما أنّ الوضع من الواضع فهذه الأمور المتخالفة الطّارئة عليه أيضا من جانب الواضع و لذا يقال إنّ المعنى المجازي وضع ثانويّ فكما يكتفي في المعنى المجازي بالقرائن المعهودة و المعدودة فكذا يكتفي في معرفة أن ذلك اللّفظ مجاز لا مشترك و لا منقول بقرينة الغلبة سيّما و الأصل عدم الوضع الجديد و عدم تعدّده و عدم الإضمار و غير ذلك انتهت عباراته زيد حسناته و حاصل قوله فكما أنّ الوضع من الواضع إلى آخره على ما وصل إليه نظري أنّ الوضع و الترخيص في المجازات الّذي يعبّر عنه بالوضع النوعي كليهما من الواضع فكما يكتفي في تشخيص إرادة المجاز في قبال الموضوع له بعد العلم بالوضع بالقرائن المعهودة أي المعهودة عند أهل اللّسان فكذلك ينبغي أن يكتفي في معرفة إرادة المجاز أو التخصيص في قبال الاشتراك مثلا بقرينة الغلبة لأنّها أيضا من القرائن المعهودة لأنّ كلاّ منهما أمر توقيفي له تعلّق بالواضع و الاقتناع في أحدهما بالقرائن المعهودة دون الآخر تحكم بيّن و ممّا ذكرنا ظهر أن هذا ليس وجها مغايرا لما أشار إليه أولا إجمالا من أنّ الدّليل على اعتبار هذا الظنّ هو الدّليل على أصالة الحقيقة بل الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل و الغرض من قوله سيّما و الأصل عدم الوضع إلى آخره التّأييد و اعتضاد الظنّ الحاصل من الغلبة فلا يرد أنّ هذه الأصول معارضة بالمثل (و الثاني) إجماع العلماء و قد أشار إليه بقوله و لم نقف على من منع من العمل بهذا الظنّ من الفقهاء (و الثّالث) الاستقرار الحاصل من تتبع الأحكام و الأدلّة الشرعيّة التي رجح فيها جانب الغالب بحيث يظهر منه التعويل على الغلبة مطلقا مثل ما دلّ على إباحة ما يؤخذ من يد مجهول الحال في سوق المسلمين إذا كان الغالب فيه المسلم (أقول) و يمكن المناقشة في الأول بأنّ الدليل على اعتبار أصالة الحقيقة و هو بناء العرف و العقلاء على العمل بأصالة عدم القرينة و ما يجري مجراها من الأصول المستعملة في حمل الألفاظ على الحقائق الّتي فصّلناها و شرحناها و كون بنائهم على الاعتماد بالغلبة في تعيين المرادات من دون أن يكون سببا لصيرورة اللّفظ من الظّواهر العرفية أوّل الكلام حتى أنّه (قدّس سرّه) قد اعترف بعدمه فيما سبق في المجاز المشهور حيث صرّح هناك بعدم صلاحية الشهرة و غلبة الاستعمال لتعيين أحد معنى المشترك و أما قوله فكما يكتفي في المعنى المجازي بالقرائن المعهودة المعدودة فإن أراد به ما فهمناه (ففيه أوّلا) أنّه ليس في العرف قرائن معهودة معدودة لصرف الألفاظ عن حقائقها إلى مجازاتها بل القرائن الصارفة أمور غير منضبطة موكولة إلى ما بين المتكلّم و
المخاطب من المقال أو الحال نعم قد يكون الشيء قرينة على التّجوز عند العرف في خصوص بعض الألفاظ كورود الأمر مثلا في مقام توهم الخطر فإنّه عند العرف قرينة على إرادة الإباحة من الأمر و مثل الشهرة في المجاز على القول بحمله على المعنى المجازي بقرينة الشهرة و أمّا كون الشيء قرينة معهودة عند العرف على التجوز في سائر الألفاظ المجرّدة عن القرينة فلم نتحصّل ذلك و لو أغمضنا عن ذلك و سلّمنا صحّة التعبير عن مثل هذه القرائن الثابتة في ألفاظ مخصوصة بتلك العبارة ورد عليه ما أشرنا من أنّ التعويل على هذه القرائن إنّما هو لأجل صيرورة اللّفظ بملاحظتها ظاهرا عرفيّا في المعنى المجازي و الاكتفاء به لا يستلزم الاكتفاء بالغلبة في ترجيح المجاز على الإضمار مثلا و إن أراد به القرائن المعهودة بين المتكلّم و المخاطب فمع إباء توصيفها بالمعدودة عن ذلك كما لا يخفى يرد عليه أنّ الاكتفاء بالقرائن المعهودة بهذا المعنى إنّما هو لأجل كونها مفيدة للمخاطب العلم بالمجاز و إلاّ فلا يعول عليها إلاّ أن يكون الظنّ الحاصل منها ظنّا معتبرا مستفادا عن أصالة الحقيقة و أيّ ملازمة بين الاكتفاء بها و الاكتفاء بالغلبة في ترجيح المجاز على الاشتراك مثلا و إن أراد أنّه كما يكتفي في التجوّز بالعلائق المعهودة المعدودة كما يشعر به لفظ المعدودة كذلك يكتفي في إثبات أنّ هذا اللّفظ مجاز لا مشترك بالغلبة فمع ما في التعبير عن العلائق بالقرائن من قصور الدّلالة و سقم العبارة يرد عليه ما لا يخفى إذ لا مناسبة