نبدأ رسالتنا هذه بالحمد للّه ربّنا على نعمه الواصلة منه إلينا، و على إحسانه المتقدّم علينا [1] ، إذ أصبحنا بتوحيده و عدله قائمين و لمن جوره في حكمه عائبين، و لمعاصينا عليه غير حاملين، و بآثار أئمة الهدى مقتدين، و بالمحكم من كتابه و آياته متمسّكين.
فالحمد للّه الذي اختصّنا بهذه النعمة، و شرّفنا بهذه الفضيلة، و صلى اللّه على محمّد خاتم النبيين، و رسول ربّ العالمين، الذي جعله رحمة للعباد أجمعين و استنقذ به من الهلكة، و هدى به من الضلالة، و كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فبلغ عن ربّه، و اجتهد في طاعته، حتى أتاه اليقين، و على آله الطاهرين.
سألت أعزك اللّه و أرشدك إملاء رسالة في القدر فقد جالت به الفكر و أكثرها عن معرفته قد انحسر، و ذكرت أنّ الذي حداك إلى ذلك ما وجدته ظاهرا في عوام النيل [2] و معظم خواصّها من القول المؤدّي إلى الكفر المحض بسبب الجبر و تجويرهم اللّه في حكمه، و حملهم معاصيهم عليه، و إضافتهم القبائح إليه، و تعلّقهم بأخبار مجهولة منكرة أو متشابهة في اللفظ مجملة، و حجاجهم بما تشابه من الكتاب لعدم معرفتهم بفائدته، و قصور أفهامهم عن[الغرض]المقصود به.
و اعلم أنّ الكلام في القضاء و القدر قد أعيى أكثر أهل النظر، و أتعب ذوي الفكر، و المتكلّم فيه بغير علم على غاية من الخطر. و الذي يجب على من أراد معرفة هذا الباب-و هو العلم بما يستحقّ الباري سبحانه من الأوصاف الحميدة و ما ينفى عنه من ضدّها-فإنّه متى علم ذلك أمن من أن يضيف إليه ما ليس من أوصافه أو ينفي عنه ما هو منها و يتبع ذلك من الأبواب ما لا بدّ من الوقوف عليه: نحو المعرفة بأقوال المبطلين، و معرفة أقوال المحقّين، و غير ذلك ممّا سنبيّنه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.
[2] النيل يطلق على عدة أمكنة لا نعلم أيها قصد السائل: «أحدها» بليدة في سواد الكوفة قرب حلة بنى مزيد يخترقها خليج كبير يتخلج من الفرات الكبير، «ثانيها» نهر من انهار الرقة حفره الرشيد على صفة نيل الرقة، «ثالثها» نيل مصر و هو النهر المشهور (معجم البلدان: 5/334) .