نام کتاب : كليلة و دمنة نویسنده : ابن المقفع جلد : 1 صفحه : 76
فإذا حيّات أربع قد أخرجن رءوسهنّ من أجحارهنّ [1] ثمّ نظر فإذا في قعر البئر تنّين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه، فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود و أبيض و هما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران فبينما هو في النّظر لأمره و الاهتمام لنفسه إذ بصر قريبا منه بخليّة [2] فيها عسل فذاق العسل فشغلته حلاوته و ألهته لذته عن الفكرة في شيء من أمره، و أن يلتمس الخلاص لنفسه، و لم يذكر أنّ رجليه على حيّات أربع لا يدري متى يقع عليهنّ، و لم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين، و متى انقطعا وقع على التّنّين، فلم يزل لاهيا غافلا مشغولا بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التّنّين فهلك.
فشبّهت بالبئر الدّنيا المملوءة آفات و شرورا و مخافات و عاهات [3] و شبّهت بالحيّات الأربع الأخلاط الأربعة التي في البدن فإنّها متى هاجت أو هاج أحدها كانت كحمة [4] الأفاعي و السّمّ المميت، و شبّهت بالغصنين الأجل الذي لا بدّ من انقطاعه، و شبّهت بالجرذين الأسود و الأبيض اللّيل و النّهار اللّذين هما دائبان في إفناء الأجل، و شبّهت بالتّنّين المصير الذي لا بدّ منه، و شبّهت بالعسل هذه الحلاوة القليلة التي ينال منها الإنسان فيرى و يطعم و يسمع و يشمّ و يلمس و يتشاغل عن نفسه و يلهو عن شأنه فينسى أمر الآخرة و يصدّ عن سبيل قصده.
فحينئذ صار أمري إلى الرّضى بحالي و إصلاح ما استطعت إصلاحه من عملي لعلّي أن أصادف باقي أيّامي زمانا أصيب فيه دليلا على هداي و سلطانا على نفسي و قواما على أمري، فأقمت على هذه الحال و انتسخت كتبا كثيرة و انصرفت من بلاد الهند و قد نسخت هذا الكتاب.
[1] أجحارهن: جـ جحر بتقديم الجيم، و هي للهوام أو السباع كالوكر للطير.