و هي إجازة نقل الأحاديث الشريفة بطرقه المتصلة إلى (أئمة أهل البيت) عليهم الصلاة و السلام.
و قد يظن بعض من لا خبرة له عن الواقع أن أستاذ الشيخ (المولى النراقي) لم يجز الشيخ إجازة اجتهاد و إنما أجازه إجازة رواية فحسب كما هي صريحة بذلك.
لكنه غفل عن حقيقة الحال، حيث إن الشيخ كان غنيا عن ذلك و هو أجل من أن يحتاج إلى إجازة الاجتهاد، كيف و قد بلغ منه قمته.
بالإضافة إلى أن (المولى النراقي) في إجازته هذه يصرح باجتهاده بقوله: و فاز بالحظ الأوفر الأسنى، و بقوله في مجالات اخرى:
و قد شاهدت في جميع أسفاري خمسين مجتهدا مسلم الاجتهاد فلم أر أحدا منهم كالشيخ الأنصاري في غزارة علمه، و كثرة فضله، و طول باعه.
أو بعد هذا التصريح و الاعتراف بأعلمية الشيخ عن خمسين مجتهدا مسلم الاجتهاد: يحتاج الشيخ إلى إجازة الاجتهاد؟.
لست أدري أي إجازة تكون أعظم و أصرح من هذه الكلمات في اجتهاد العالم الديني حتى يحتاج إلى أخذها كتبا.
أخذ الشيخ الاجازة مفتخرا بها، لكونها إجازة نقل الأحاديث الشريفة و لا يزال هذه شيمة العلماء و رجال الدين في أخذهم الاجازة الروايتية.
[خروج الشيخ الى مدينة خراسان]
خرج الشيخ و بخدمته أخوه قاصدين مدينة (خراسان) [1] للتشرف
[1] هي إحدى (محافظات إيران) و تعد من أكبرها و أوسعها و أهمها من شتى جوانبها: جغرافيا و سياسيا و اقتصاديا.
كانت هذه المحافظة قبل الاسلام من المراكز الحساسة يعتني بشأنها ملوك الفرس الأقدمين و لا سيما الساسانيين منهم.
و لهذه المحافظة أقضية و نواحي كثيرة جاوزت العشرات.
ليست مدينة (خراسان) ذات أهمية سياسية و دينية فحسب، بل و ذات أهمية كبرى من النواحي الأدبية و العلمية و التمدن الاسلامي قديما و حديثا.
فقد أصبحت هذه المدينة العظيمة الجبارة ببركة (الامام الثامن) من بعد تشريفه لها من أعظم المعاهد الاسلامية الكبرى، و المراكز العلمية العظمى ففي الحقيقة تعد هذه المدينة من أهم (محافظات إيران)، بل تعد قلبها و لها أثرها الخاص في نفوس المسلمين بصورة عامة، و في نفوس (الشيعة الامامية) بصورة خاصة، لأنهم يرونها مدفن بضعة (الرسول الأعظم) (صلى اللّه عليه و آله)، و ثامن أئمتهم فتؤمها الشيعة من أصقاع (إيران) و من الدول المسلمة المجاورة لها و النائية عنها، و تتهافت لزيارته (عليه السلام) و لن تجد الحرم المقدس فارغا من الزوار لا في الليل، و لا في النهار.
و خلاصة الكلام أن هذه المدينة المقدسة تعد من أعظم المدن الثقافية الاسلامية منذ أن شرفها الامام الثامن (أبو الحسن الرضا) (عليه السلام) حينما دعاه (المأمون) سابع خلفاء العباسين لولاية العهد.
و لا تزال هذه المدينة فيها الحركة العلمية الثقافية الدينية و فيها المراجع الدينيون و جم غفير من رجال الدين.
اهتم (ملوك الصفويين) بعمارة هذه العتبة المقدسة اهتماما بليغا فصرفوا عليها المبالغ الباهظة و قد جاوزت الملايين فجاءوا بمهندسين و معمارين و فنانين في شتى الفنون فأخذوا في تعمير المرقد الطاهر بهندسة دقيقة فنية و استعملوا معها الذوق الحسن الجميل فبنوا حرما و أروقة واسعة عالية شاهقة ضخمة على أحسن طراز و زينوها بزخارف بديعة ثمينة نفيسة من الكاشي المعرق
و الزجاج بأشكال بديعة هندسية مطعّمة بالذهب الخالص، و عليها الآيات الكريمة، و الأحاديث الشريفة.
و فوق المرقد الطاهر القبة العالية قد كسيت بالطابوق الذهبي من خالص أموال الملك (الشاه عباس) الصفوي.
و للمرقد الطاهر صحنان وسيعان بديعان يحتوي كل واحد منهما على طابقين على طراز الصحن الطاهر (العلوي) (صلوات اللّه عليه) و فيهما غرف جميلة زينت طوارمها بالقاشي الجميل و الرخام البديع، و في الطوارم أشكال جميلة من الزجاج.
و يجري في وسط الصحن الكبير نهر ماء في الليل و النهار يأتي من فوق المدينة و يدخل في آخرها.
و قدموا للعتبة المقدسة من الأحجار الكريمة و الأشياء النفيسة من الذهب و الفرش مما يدهش العقول.
و على أثرهم اهتم (ملوك إيران) بعد سقوط (الدولة الصفوية) من (الأفشارية و الزندية و القاجارية) بالعتبة المقدسة.
ثم أخذوا في عمارة المدينة فشيدوا لها الجوامع و المدارس العلمية الدينية لرجال الدين و قد أصبحت هذه المدارس مكتظة برواد العلم و طلابه و كلها من القسم الداخلي و أوقفوا لها الأملاك الطائلة كما أنهم أوقفوا على العتبة المقدسة القرى الكثيرة العامرة، و الأراضي الزراعية، و المحلات التجارية فأصبحت وارداتها بالإضافة إلى المجوهرات النفيسة التي أهداها الملوك للعتبة المقدسة: هو الرصيد الوحيد في إيران.
و قد جنت على هذه (العتبة المقدسة) بصورة خاصة، و على المدينة بصورة عامة: يد الظلم و العدوان فشنت عليها غارات و غارات فأغار
على الحرم الطاهر و المواطنين الكرام النواصب اللئام، و زنادقة الكفار من (قياصرة روسيا).
هذه حملة الأتراك التي هي من أهم الحوادث الدامية و المفجعة و على رأسهم الكافر الوحشي (جنكيز التتار) فقد أهلك الحرث و النسل فأخذ في القتل و النهب و الهدم و التخريب ما تقشعر منه الأبدان.
لقد بالغ هذا الوحشي الوثني في إراقة دماء سكان هذه المحافظة و إبادتهم عن آخرهم و لم يقتنع بذلك حتى أمر بقتل الحيوانات، و قلع الأشجار، و هدم الدور و البنايات و جعل المدينة و سائر مدنها أطلالا و جنادل كما فعل بسائر المدن الاسلامية جمعاء.
هذه حملة حفيد (جنكيز هولاكو) و هذه إن لم تكن أكثر من حملة جده الوحشي لم يكن بأقل منها فلقد قضى هذا الوحشي على المدن الاسلامية (و لا سيما مدينة بغداد).
هذه حملة (شيبك خان و عبد المؤمن خان) الأوزبكيين.
و خلاصة القول في هذه الحملة التي تسمى ب: (الحملة الأوزبكية) أن المدينة المقدسة لاقت من هؤلاء القساة الطغاة من الحروب و المعارك الدامية ما ترتعش من كتابتها الأيدي عند ما يأخذ الكاتب القلم و يريد أن يكتب عن حملة هؤلاء الوحوش.
و يكفيك في عظم المصاب ما يصفه شاعر تلك البلاد (أنوري) و في فضاعة الواقعة في قصيدته الفارسية التي ألقاها.
يقول في بيت من القصيدة ما معناه: إنك لن تجد شخصا سارا فرحا إلا عند الموت، و لن تجد بنتا باكرة إلا في رحم أمها.
و هذه حملة أفغان بقيادة (محمود الأفغان) التي قضت على بلاد خراسان (و ملوك الصفوية).
و هذه حملة (روسيا القيصرية) التي دخل بجيشها الكافر الحرم الطاهر بأحذيتهم، و أطلقوا النيران على القبر المقدس و اللائذين بضريحه الطاهر فقتلوا النفوس الأبرياء، و أجروا الدماء في الحرم، و نهبوا ما فيه.
و هذه الحملة الأخيرة في عصرنا الحاضر التي ذهبت فيها ضحايا كثيرة بصورة مخزية مشجية، و التي سببت القضاء على حوزتها العلمية و روادها و التي سببت غلق مدارسها العلمية الدينية.
و إلى هذه الحملات و الغارات أشار صاحب القبر المقدس (الامام الثامن) (عليه السلام) بقوله:
و قبر بطوس يا لها من مصيبة * * * ألحّت على الأحشاء بالزفرات
إلى الحشر حتى يبعث اللّه قائما * * * يفرج عنّا الغم و الكربات
هذان البيتان قالهما (عليه السلام) عند ما أنشأ شاعر (أهل البيت) (دعبل الخزاعي) (رضوان اللّه تبارك و تعالى عليه) بمحضر الامام (عليه السلام):
قصيدته التائية الخالدة.
هذا الشاعر العظيم الذي طالما كان يحمل خشبته على كتفه ليصلب عليها، و هو القائل: لي خمسون عاما أحمل خشبتي على كتفي أدور على من يصلبني عليها فما أجد من يفعل ذلك. أليك بعض القصيدة.
قبور بكوفان و أخرى بطيبة * * * و أخرى بفخ نا لها صلواتي
و أخرى بأرض الجوزجان محلها * * * و قبر بباخمرا لدى الغربات
و قبر ببغداد لنفس زكيّة * * * تضمنها الرحمن في الغرفات
قبور بجنب النهر من أرض كربلاء * * * معرسهم فها بشط فرات
لما قرأ دعبل قصيدته فقال له الامام (عليه السلام) بعد أن أنشد البيتين:
ألحقهما بقصيدتك.
فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر من؟.
قال الامام (عليه السلام): هو قبري.
و بالرغم من ذلك كله فقد جعل اللّه عز و جل كيدهم في نحورهم و أباد ملكهم، و شتت شملهم، و أخذهم أخذ عزيز مقتدر فجعلهم أيادي سبا، و طرائق قددا، فأعاد مجدها الغابر و هم في جهنم خالدون.
هذه مدارسها الدينية أصبحت مليئة برواد العلم و حملة الكتاب و حفاظه و هذه حوزتها العلمية و قد جاوز عدد طلابها الآلاف.
كانت للعتبة المقدسة مكتبة ضخمة جدا جاوز عددها الآلاف نهبتها الأيادي الأثيمة، و أحرفت ما تبقى منها.
و في الوقت الحاضر لها مكتبة فخمة عظيمة جدا بلغ عدد كتبها خمسين ألف مجلد و فيها من النفائس الخطية ما لا توجد في المكتبات الاسلامية.
و كان بوسع هؤلاء الذين يديرون إدارة المكتبة و شئونها: أن يبتاعوا في كل سنة عددا كثيرا من الكتب: الخطية و المطبوعة في كل عام لا يقل عن خمسة آلاف مجلد من بداية تأسيسها إلى عامنا هذا عام 1393 فيبلغ عدد الكتب في خلال هذه المدة و هو خمسون عاما تقريبا: مائتان و خمسون ألف مجلد، مع ما لهذه العتبة المقدسة من الواردات السنوية من أوقافها و ما أكثرها.
و قد ساعد في ترتيب هذه المكتبة و تنظيمها في الآونة الأخيرة زميلنا المكرم الفاضل السيد عبد العزيز الطباطبائي حفيد المرحوم (السيد الطباطبائي اليزدي) (قدس سره).
و في سفري إلى إيران عام 1390 و تشرفي بالعتبة المقدسة بصحبته زرت المكتبة و كان مديرها رجلا فاضلا أديبا من أسرة شريفة تعارفنا معه فرأينا من المصاحف الكريمة الخطية و الكتب النفيسة ما يدهش العقول.
ثم بعد التجوال في الأماكن المعدة للمصاحف الكريمة، و الكتب النفيسة و القفائس الخاصة المهيأة لها: ذهبنا إلى غرفة المدير و جلسنا عنده و طال جلوسنا و دار الحديث بيننا و بينه حول الكتب الثمينة النهيبة التي نهبها أعداء الاسلام من البلدان الاسلامية، و التي أحرقتها و لا سيما من محافظة خراسان و بالأخص المدينة المقدسة.
و قد أنجبت هذه المحافظة بصورة عامة، و مدينة (خراسان) بصورة خاصة المئات من الأعلام النوابغ خدموا العلم و الدين و لغة الضاد على إختلاف طبقاتهم.
هذا تراثهم الخالد ملئت الآفاق، و هذه كتبهم النافعة أصبحت زينة المكتبات لا تجد بلدة اسلامية حتى البلاد الأجنبية تخلو من مصنفاتهم و لا يستغني أي عالم سنيا كان أم شيعيا من مؤلفاتهم فترى العلوم بأنواعها قد زهت على يد علمائها فهم بين فقهاء و أصوليين، و محدثين و مفسرين و حكماء و فلاسفة، و بلغاء و أدباء و شعراء، و أطباء و مؤرخين و رياضيين.
هذا (شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي) المؤسس للحوزة العلمية الدينية في (النجف الأشرف) منذ أن حل فيها بعد وقوع الحوادث في (بغداد) بين (السنة و الشيعة) و هروبه منها فقد وضع (شيخ الطائفة) حجرها الأساسي، و بنى مجدها و كيانها حتى أصبحت هذه المدينة المقدسة ببركة هذا العملاق إحدى الجامعات الاسلامية و التي تعد من أكبر المعاهد العلمية الدينية و فيها المدارس الشامخات و لا تزال
معمورة و ستبقى عامرة حتى ظهور (الحجة البالغة) (عجل اللّه تعالى لصاحبها الفرج) و تشد إليها الرحال من أصقاع البلاد.
و كفى لهذه الجامعة فخرا أن أنجبت لحد اليوم الآلاف من أعاظم العلماء، و أساطين الفقهاء ازدان بهم الدهر، و ابتسم بهم العصر.
و من هذه الجامعة انتشرت علوم الطائفة الامامية بشتى أنواعها إلى الأصقاع الشيعية، و تعتبر العاصمة للمرجعية الكبرى إلى يومنا هذا.
هذه كتب (شيخ الطائفة) الثمينة، و هذه مصنفاته القيمة فقها و أصولا و رجالا و حديثا و تفسيرا، و التي لم تخل أية مكتبة من مكتبات الطائفة الامامية، بل و لا المكتبات الاسلامية منها فقد عكف عليها الأعلام منذ أن جاءت إلى عالم الوجود.
و هذا نابغة الزمان، و مفخرة الأيام أستاذ الحكماء و مروج علم النجوم و الأفلاك (الخواجا نصير الدين الطوسي) صاحب الآراء المتبعة، و التصانيف القيمة الذي قال في حقه المؤرخ الشهير (جرجي زيدان) و لقد زها العلم على يد هذا الفارسي كأنه قبس منير في ظلمة مدلهمّة.
و هو أول من وضع مرصدا في البلاد الاسلامية في مدينة (مراغة) من بلاد (آذربايجان)، و جمع فيها من الأعلام من أنحاء البلاد.
و كانت له مكتبة ضخمة فيها من أنفس الكتب جاوز عددها أربعمائة ألف مجلد.
و هذا أستاذ الحكماء، و معلم الأطباء (ابن سيناء) الذي بكتبه وجدت الحركة العلمية الطبية، و بفضلها أسست الكليات و الجامعات في البلاد الغربية و الشرقية.
هذا (ابن سيناء) الذي اتفق مؤرخو الفلسفة أنه ألمع اسم في تاريخ
العلم، و أكبر فيلسوف من فلاسفة المسلمين الذين برزوا في الفلسفة و الطبيعيات و الطب.
هذا (ابن سيناء) الذي طار اسمه و ذاع صيته في الشرق و الغرب و استفادا من كتبه على السواء.
هذا (ابن سيناء) الذي ترجمت كتبه باللغة اللاتينية و غيرها عشرات المرات.
هذا (ابن سيناء) الذي أذعن بآرائه الفلسفية، و نظرياته الطبية الأوساط العلمية.
هذا (ابن سيناء) الذي سيطرت آراؤه على المفكرين و الفلاسفة.
و خلاصة الكلام أن (ابن سيناء) فيلسوف منهجي، و صاحب مدرسة فلسفية. ذات نظريات معينة.
و طبيب عبقري اكتشف جوانبا كثيرة من العلوم الطبية.
و منطقي كبير كشف عن آراء (أرسطو) المنطقية و هذبها.
و رياضي فلكي و طبيعي له آثار قيمة فيها.
و سياسي تولى الوزارة أيام الملك (شمس الدولة البويهي).
هذا (ابن سيناء الذي بتأثير مدرسته الفكرية اقتدى الفلاسفة المتأخرون (كالمحقق الطوسي و السيد الداماد و صدر الدين الشيرازي) الذي هو أول من قال: ب: أصالة الوجود.
هذا كتابه (القانون) و قد أصبح من الكتب الرسمية الدراسية في المعاهد العلمية الغربية و مرجعا هاما لطلاب الطب في (جامعات اوربا) الى وقت متأخر.
و هذا الشاعر الكبير، و الفيلسوف العظيم (عمر الخيام) صاحب