و على هذا، يظهر القول الثاني القائل إن الحروف لا معاني لها و كذلك القول الأول القائل أن المعنى الحرفي و الاسمي متحدان بالذات مختلفان باللحاظ.
و يرد هذا القول أيضا: أنه لو صح اتحاد المعنيين لجاز استعمال كل من الحرف و الاسم في موضع الآخر، مع إنه لا يصح بالبداهة حتى على نحو المجاز (1)، فلا يصح بدل قولنا: زيد في الدار- مثلا- أن يقال زيد الظرفية الدار.
و قد أجيب عن هذا الإيراد: بأنه إنما لا يصح أحدهما في موضع الآخر لأن الواضع اشترط ألا يستعمل لفظ الظرفية إلا عند لحاظ معناه مستقلا، و لا يستعمل لفظ (في) إلا عند لحاظ معناه غير مستقل و آلة لغيره. و لكنه جواب غير صحيح لأنه لا دليل على وجوب اتباع ما يشترطه الواضع إذا لم يكن اشتراطه يوجب اعتبار خصوصية في اللفظ و المعنى (2). و على تقدير أن يكون الواضع ممن تجب طاعته، فمخالفته توجب العصيان لا غلط الكلام (3).
(زيادة إيضاح): إذ قد عرفت أن الموجودات (4) منها ما يكون مستقلا في
(1) لعدم وجود العلاقة بين- في- الذي هو معنى حرفي آلي، و بين- الظرفية- الذي هو معنى اسمي استقلالي، و إضافة إلى ذلك أنه ينافي الذوق السليم.
(2) و بعبارة أخرى: إذا كان اشتراط الواضع يوجب أخذ خصوصية في المعنى الموضوع له اللفظ أو اللفظ الموضوع للمعنى، فحينئذ: تجب طاعته في ذلك، فمثلا: لو اشترط أن لفظ الإنسان موضوع لطبيعة الإنسان بشرط الإطلاق، فهذا الشرط أوجب خصوصية في نفس المعنى الموضوع له اللفظ، ففي مثل هذا تجب إطاعته. أما في المقام فاشتراط الاستقلالية و الآلية ليس هما مأخوذين في المعنى الموضوع له الاسم أو الحرف بل الاسم موضوع للظرفية، و كذلك الحرف (في) موضوع للظرفية من دون أخذ أي خصوصية في المعنى الموضوع له، و خصوصيتا الاستقلالية و الآلية إنما هما خارجيتان عن حريم اللفظ و المعنى، و هما تابعتان لمقام الاستعمال، و في مقام الاستعمال لا دليل على وجوب اتباع الواضع، ففي مقام الاستعمال تارة: يلحظ الابتداء بما هو مقوم بالطرفين، فهذا يعبر عنه باللحاظ الآلي و المعنى الحرفي، و تارة يلحظ الابتداء في نفسه، و يعبر عنه باللحاظ الاستقلالي و المعنى الاسمي.
(3) تعليق: إننا نشعر الغلطية بالوجدان، و هذا يدل على إن الظرفية لا يصح وضعها مكان (في) سواء اشترط الواضع أم لم يشترط.
(4) ينبغي أن يقال للتوضيح: أن الموجودات على أربعة أنحاء:
1- موجود في نفسه بنفسه، و هو الله «سبحانه و تعالى»، فإنه موجود في نفسه لنفسه، أي: لا لأجل غيره، و بنفسه أي: هو قائم بنفسه و لم يوجد بسبب موجد.