فإذا جاء بعد انعقاد هذا الظهور في العموم مخصص منفصل لفظي، كما لو قال في المثال المتقدم: (لا تكرم الأعداء من جيراني)، فإن هذا المخصص لا شك في إنه لا يكون ظاهرا في أمرين:
1- أن صفة العداوة منافية لوجوب الإكرام.
2- إن في الجيران من هو على صفة العداوة فعلا أو يتوقع منه أن يكون عدوا، و إلا لو لم يوجد العدو و لا يتوقع فيهم لكان هذا التخصيص لغوا و عبثا لا يصدر من الحكيم.
و على ذلك: فيكون المخصص اللفظي مزاحما للعام في الظهورين معا، فيسقط عن الحجية فيهما معا.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا، فلا مجال فيه للتمسك بالعام في إلحاقه بحكمه، لسقوط العام عن حجيته في شموله له، إذ يكون هذا الفرد مرددا بين دخوله فيما أصبح العام حجة فيه و بين دخوله فيما كان الخاص حجة فيه.
أما لو كان هناك مخصص لبي، كما لو حكم العقل- مثلا- بأن العداوة تنافي وجوب الإكرام، فإن هذا الحكم من العقل لا يتوقف على أن يكون هناك أعداء بالفعل أو متوقعون، بل العقل يحكم بهذا الحكم سواء كان هناك أعداء أم لم يكونوا أبدا، إذ لا مجال للقول: بأنه لو لم يكن هناك أعداء لكان حكم العقل لغوا و عبثا، كما هو واضح بأدنى تأمل و التفات. و عليه، فالحكم العقلي هذا لا يزاحم الظهور الثّاني العام، أعني: ظهوره في عدم المنافي، فظهوره الثّاني هذا يبقى بلا مزاحم.
فإذا شككنا في فرد من الجيران أنه عدو أم لا فلا مانع من التمسك بالعام في إدخاله في حكمه، لأنه لا يكون هذا الفرد مرددا بين دخوله في هذه الحجة أو هذه الحجة، إذ المخصص اللبي- حسب الفرض- لا يقتضي وجود المنافي و ليس حجة فيه، أما العام فهو حجة فيه بلا مزاحم.
فظهر من هذا البيان: أن الفرق عظيم بين المخصص اللبي و المخصص اللفظي من هذه الناحية، لأنه في المخصص اللبي يبقى العام حجة في ظهوره الثّاني من دون أن يكون المختص متعرضا له، و لا يسقط العام عن الحجية في ظهوره إلا بمقدار المزاحمة لا أكثر. و هذا بخلاف المخصص اللفظي فإنه ظاهر في الأمرين معا كما قدمناه، فيكون مزاحما للعام فيهما معا.
و لا فرق في المخصص اللبي بين أن يكون ضروريا أو يكون غير ضروري، و لا بين أن يكون كاشفا عن تقييد موضوع العام أو كاشفا عن ملاك الحكم، فإنه في جميع هذه الصور لا يقتضي وجود المنافي.
و بهذا التحرير للمسألة يتجلى مرام الشّيخ الأعظم أنه الأولى بالاعتماد. (المصنّف).
(1) لا يجوز العمل بالعام قبل الفحص عن المخصص: النكتة من الفحص هو: العلم مسبقا بأن المولى من دأبه و شأنه أن يخصص في العموم، و يقيد في الإطلاق، و لذلك وجب الفحص.
قد يشكل: لما ذا لم يبين مراده مباشرة من كلامه؟ نقول: لعل من المصلحة أن يصب الحكم أوّلا على العموم ثم يخصصه.
و قد يقال: لا محل لهذا الإشكال فإن إلقاء العمومات ثم طروء التخصيص عليها ممّا قامت عليه سيرة العقلاء.