و الذي يبدو أنّ هذا التجوّز في استعمال القاعدة هنا تحوّل على أيدي الفقهاء إلى مصطلح يحمل دلالة محدودة، كما يظهر ذلك من تعاريفهم للقواعد الفقهية في المظانّ التي تذكر فيها هذه القواعد.
فالحموي-و هو من أعلام الفقهاء القدامى-عرّف القاعدة الفقهية في حاشيته على الأشباه بأنّها: «حكم أغلبيّ ينطبق على معظم جزئياته» .
و مصدرها لسان حديث نبويّ مأثور «لا ضرر و لا ضرار» و هو يعدّ من جوامع الكلم، و قد اعتبره الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء من معجزات بلاغته.
لتحديد المراد من هذه القاعدة لا بدّ من تحديد ما انطوت عليه من مفردات و بخاصّة كلمات: «الضرر» ، «الضرار» ، «لا» .
حجّية القاعدة من السنّة النبوية الشريفة و قد ادّعى تواتر الحديث بعض الأعلام، منهم الشيخ الخراساني في «كفاية الأصول» .
المراد من إجمال القاعدة: بدعوى أنّ الأحاديث التي اعتبرناها مصدرا للقاعدة، و حاولنا أن نستفيد منها ما يلقي الأضواء على مدلولها، لا تخلو من إجمال؛ لخروج المورد في بعضها عن المدلول الظاهر لها، و خروج المورد ممّا لا يستساغ في محاورات أهل العرف عادة.
عرض الفقهاء لقسم من هذه المجالات عند ما تحدّثوا عن هذه القاعدة، و توسّع بعضهم فبنى عليها كثيرا من أبواب الفقه:
و المراد بالضرر الشخصي: ما يدخل على الفرد من نقص و إن لم يشاركه غيره فيه، بينما يراد بالضرر النوعي: ما يشمل أغلبيّة الناس و إن لم يعمّهم جميعا ، و بينهما عموم و خصوص من وجه، فهما يلتقيان-مثلا-في ضرر ما يعمّ نوع الناس، فإذا انطبق على زيد-مثلا-كان من ناحية ضررا شخصيّا؛ لانطباقه على الشخص، و من ناحية أخرى نوعيّا؛ لشموله لأغلبيّة الناس، كالضرر الناشئ من استعمال الماء البارد في الغسل في شدّة البرد.
تساءل الفقهاء عن النفي الوارد على «الضرر» في هذه القاعدة أ هو من قبيل الرخصة، أم من قبيل العزيمة؟
و إذا صحّ ما انتهينا إليه في مدلول القاعدة من أنّها رخصة لا عزيمة، أي أنّ مدلولها لا يرفع أكثر من اللّزوم في الأحكام الوضعيّة، و الإلزام في الأحكام التكليفيّة، وجب التساؤل عن مدى شمول هذه القاعدة للأحكام التكليفية الملزمة.
و يقصد بالأمور العدميّة: الأمور التي لم يرد من الشارع حكم فيها، و عدم وروده يستلزم الضرر.
المستفاد من هذه القاعدة-بمناسبة الحكم و الموضوع و بتسلّط النفي على نفس الضرر-: أنّ المنفيّ فيها هو الضرر الواقعي ، لا العلم أو الظنّ به.
و يقصد بذلك: أنّ القاعدة هل تقتضي رفع الوجوب مثلا عن المكلّف إذا لم يسبب امتثاله ضررا له، و إنّما يسبّب إحداث ضرر لغيره.
و هذه القاعدة ربّما تعتبر من أهم القواعد التي رتّبت على قاعدة (لا ضرر) ، و ذكرت مصدرا لكثير من أبواب الفقه على ألسنة بعض الفقهاء.
المراد من القاعدة و المراد بهذه القاعدة في حدود ما ذكره مصطفى الزرقا: «أنّ ما كان في أيدي الناس أو تحت تصرّفاتهم قديما من أشياء و منافع و مرافق مشروعة أصلها يبقى لهم كما هو، و يعتبر قدمه دليلا على أنّه حقّ قائم بطريق مشروع» .
و هي بهذه الصياغة لا تخلو من إجمال؛ إذ لا معنى لأن يقال: الضرر لا يكون قديما؛ مع إنّه قد يكون قديما بالوجدان، كما مرّ في الأمثلة.
و هذه القاعدة هي التي تكفّلت بشأن الأحكام التحريمية و رفعتها في حالات معيّنة، أعني حالات الضرورة.
مصدر القاعدة و هذه القاعدة لم نجد لها نصّا في المأثور عن الشارع المقدّس، و لعلّها من صياغة بعض الفقهاء.
هذه القاعدة في الواقع عقلية، تقتضيها مناسبة الحكم و الموضوع، و قريب منها ما ورد على ألسنة بعض الفقهاء أمثال القواعد
رابعا: قاعدة «إذا زال المانع بطل الممنوع»
و مؤدّى ذلك كلّه أنّ الحكم لا يمكن أن يكون أوسع من موضوعه، و لا المعلول أوسع من علّته، فإذا أبيح الشيء لضرورة أو أجيز لعذر، أو منع لمانع معيّن، فبزوال الضرورة أو العذر أو المانع يزول ما رتّب عليه من الحكم بالوجدان.
و السرّ في ذلك أنّ الضرورة إنّما تقدّر بقدرها بحكم العقل كما مرّ، فمن أتلف مال غيره اضطرارا سقط عنه الحكم التكليفي المانع عن الإتلاف؛ لأنّه هو الذي اضطرّ إلى
تحديد التزاحم
يطلق التزاحم و يراد به صدور حكمين من الشارع و تدافعهما في مقام الامتثال اتّفاقا؛ إمّا لعدم القدرة على الجمع بينهما، أو لقيام الدليل من الخارج على عدم إرادة الشارع الجمع بينهما.
و من هذا التحديد ندرك الفرق بينه و بين التعارض بين الأدلّة، فالتعارض ملاكه أن يعلم أنّ الصادر من الشارع حكم واحد، و لكن توجد عنه حكايتان متدافعتان، و بما أنّا نعلم أنّ الشارع لا يتناقض على نفسه، فلا بدّ أن تكون إحداهما غير صحيحة.
و قد عرض الأصوليّون بحوثا مطوّلة تحدّثت بإسهاب عن هذه المرجّحات، بخاصّة في كتب الأصوليّين من علماء الإمامية . و أهمّ هذه المرجّحات كما سبق أن عرضناها في كتابنا: الأصول العامّة للفقه المقارن، مبحث الاستحسان:
معنى القاعدة
و تعني هذه القاعدة أنّ الأحكام التي تبنى على أساس من المصلحة، إذا زاحمتها الأحكام المبنية على دفع المفاسد الكامنة في متعلّقاتها، قدّمت الأحكام المحرّمة التي يتحقّق بامتثالها دفع المفاسد على الأحكام التي يجلب امتثالها المصالح للمكلّفين.
و كأنّ مستند القاعدة ما لوحظ من اهتمام الشارع بالمنهيّات أكثر من اهتمامه بالمأمورات ؛ و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
و الإشكال وارد على هذا الاستدلال، لعدم كونه واردا مورد البيان لهذه الجهة، أي أنّ جهة المزاحمة ليست ملحوظة للدليل ليتمسّك بها، و دعوى: أنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله
و قد يستدلّ لها ببناء العقلاء القائم على اهتمامهم بدرء المفاسد عن أنفسهم أكثر من جلب المصالح لها، و بخاصة في مجال المزاحمة المدّعى إمضاؤه من قبل الشارع قطعا، فيكون سنّة بالإمضاء.
و الإشكال وارد على هذا الاستدلال أيضا، فالمعهود أنّ العقلاء يتسامحون في
و على هذا فإنّ القول بأنّ درء المفسدة-أي دفعها-أولى من جلب المصلحة ليس صحيحا على إطلاقه، و إنّما ينظر عادة إليهما بشيء من الموازنة، ثم يقدّم الأهمّ وفقا لما سبق أن ذكرناه من قواعد الترجيح في باب التزاحم.
و قد عرض الفقهاء لجملة من هذه القواعد، و فرّعوا عليها فروعا كثيرة.
و يريدون بالتعارض هنا التزاحم؛ إذ: «لا معنى للمعارضة بين المقتضي و المانع.
يراد بهذه القاعدة المنع من استغلال الإنسان حقّه في التصرّف بماله لإيقاع الأذى في الغير؛ تعنّتا و تعسّفا منه.
مصدر القاعدة من الكتاب العزيز وردت لفظة «العسر» و «الحرج» أو ما في معناهما في الكتاب العزيز في مواضع عديدة، و أبرزها في الدلالة على لسان القاعدة أربعة مواضع
لتحديد المراد من هذه القاعدة، لا بدّ من تحديد ما انطوت عليه من مفردات، و بخاصة كلمات «الحرج» و «لا» . و الذي يبدو من كلام اللّغويين: أنّ المراد من الحرج هو الضيق أو الضيق الشديد.
حجّيتها من الكتاب العزيز ذكر الفقهاء عدّة آيات تصلح للدلالة على الحجّية سبق أن ذكرنا بعضها في مصدر القاعدة، نذكر أهمّها
سقوط القاعدة لكثرة التخصيصات من الشبه التي يمكن أن تثار حول هذه القاعدة: سقوطها لكثرة ما طرأ عليها من تخصيصات ، و نحن نعلم أنّ هناك أحكاما شرعية وردت على موضوعات حرجية.
خرّج العلماء على هذه القاعدة جميع رخص الشرع و تخفيفاته.. يقول ابن نجيم في الأشباه و النظائر: «و اعلم أنّ أسباب التخفيف في العبادات و غيرها سبعة
سبق أن تحدّثنا في كتابنا «الأصول العامّة للفقه المقارن» ، و في قاعدة (لا ضرر و لا ضرار) ، عن مفهوم الرخصة و العزيمة.
يقسم الحرج إلى قسمين
و الذي يبدو من أدلّة قاعدة (لا حرج) أنّ فيها إطلاقا يشمل المحرّمات و الواجبات ، كما أنّ مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي ذلك؛ لأنّ القاعدة امتنانية، و ليس من المنّة إبقاء الحرمة الحرجيّة على حالها.
يتحدّث الفقهاء عن تناول أدلّة (لا حرج) للمستحبّات أو أنّها تختصّ بالواجبات ، و يميل البعض إلى تناولها للمستحبّات و يرفع اليد عن استحبابها إذا تسبّب عنها حرج.
بعد أن تقدّم في (لا حرج) من كونها رافعة للإلزام الشرعي، صحّ لنا أن نتساءل
يمكننا تصوير المسألة بصورتين
و يمكننا تصوير المسألة بصورتين
ورد على لسان الشيخ الأنصاري أنّ (لا حرج) حاكمة على (لا ضرر) ، و مقدّمة عليها عند التعارض تقديم حكومة.
من الأضواء التي ألقيت على القاعدة، و ثار حولها التساؤل، هو ما ذا لو تسبّب نتيجة تصرّف المكلف حرج للغير ، هل تتناوله القاعدة فترفع الحكم المسبّب له؟
المستفاد من هذه القاعدة-بمناسبة الحكم و الموضوع و بتسلّط النفي على نفس الحرج-أنّ المنفي فيها هو الحرج الواقعي، لا العلم أو الظنّ به.
أمّا مصدر النيّة من السنّة النبويّة الشريفة فجملة روايات رويت عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و رواها عنه
أمّا مصدر القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم السّلام، فقد وردت روايات عديدة عن الإمام علي، و الإمام علي بن الحسين، و الإمام الصادق، و الإمام الرضا عليهم السّلام، و رواها عنهم
النيّة في اللّغة: القصد. قال في القاموس المحيط: «نوى الشيء ينويه نيّة-تشدّد و تخفّف-: قصده» .
إنّ مفاد الأحاديث الواردة عن المعصومين عليهم السّلام: هو العزم و القصد كما هو المتبادر من لفظ النيّة و إن اختلفت مضامينها باختلاف ألسنة الأحاديث ضيقا وسعة.
عرّف القاضي البيضاوي النيّة شرعا بأنّها: «الإرادة المتوجّهة نحو الفعل ابتغاء لوجه اللّه و امتثالا لحكمه» .
حفلت كتب الحديث بأحاديث تتعلّق بالنيّة، و كثرت كثرة توجب الاطمئنان بصدورها أو بعضها على الأقلّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام ، و هذا ما أغنانا عن النظر في أسانيدها.
ذكر الفقهاء نماذج عدّة من تطبيقاتها في الفقه.
مصدر القاعدة من سنّة أهل البيت عليهم السّلام
وردت من سنّة أهل البيت عليهم السّلام جملة من الروايات عن أبي جعفر، و أبي عبد اللّه، و عن أحدهما عليهما السّلام.
جاء في صحاح الجوهري: «و عدل عن الطريق: جار. و انعدل عنه مثله» .
حفلت كتب الحديث بأحاديث مستفيضة أو متواترة مأثورة عن الأئمة عليهم السّلام، و كثرت كثرة توجب الاطمئنان بصدورها عن المعصومين عليهم السّلام، منها
و قد ادّعاه بعض الأعلام منهم: المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد في مسألة تقديم صلاة العصر على الظهر و التذكر في الأثناء فإنّه يجب عليه العدول إلى الظهر.
لا يجوز العدول من صلاة إلى أخرى إلاّ في موارد منها
قال السيوطي في الأشباه و النظائر: «مثال الأوّل أن يقول: و اللّه لا أكلّم أحدا، و ينوي زيدا. و مثال الثاني: أن يمنّ عليه رجل بما نال منه فيقول: و اللّه لا أشرب منه ماء من عطش، فإنّ اليمين تنعقد على الماء من عطش خاصّ، فلا يحنث بطعامه و ثيابه، و لو نوى أن لا ينتفع بشيء منه، و لو كانت المنازعة تقتضي ذلك؛ لأنّ النيّة إنّما تؤثّر إذا احتمل اللّفظ ما نوى بجهة يتجوّز لها. قال الأسنوي: و في ذلك نظر؛ لأنّ فيه جهة صحيحة، و هو إطلاق اسم البعض على الكلّ» .
المستفاد من قاعدة: «إنّما الأعمال بالنيّات» ، و «لكلّ امرئ ما نوى» أنّ النيّة من مقوّمات العبادة و من مشخّصات متعلّقاتها ، و تشخيص مواردها بأدلّتها الخاصّة التي لا تستند إلى هذه القواعد، و إنّما يرجع فيها إلى ما دلّ على اعتبارها من الأدلّة الخاصّة.
و ينظر في هذه القاعدة إلى أنّ ثواب الأعمال إنّما يناط بالنيّة، فهي ناظرة إلى شأن من شئون الآخرة.
مصدر القاعدة
لم ترد هذه القاعدة بهذا اللّسان في الكتاب العزيز، كما لم ترد من طريق السنّة النبويّة المشرّفة ، و إنّما ورد بعض ملابساتها في الأحاديث المأثورة عن النيّة كقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات» ، و «لا عمل لمن لا نيّة له» ... إلى غيرها من الأحاديث التي تقدّمت في مباحث النيّة.
الأمور: جمع أمر، و يراد به كما في لسان العرب: «الأمر واحد الأمور، يقال: أمر فلان مستقيم و أموره مستقيمة، و الأمر الحادثة، و يجمع: الأمور، لا يكسر على غير ذلك، و في التنزيل العزيز: أَلاََ إِلَى اَللََّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ » .
حفلت كتب الحديث بأحاديث تلابس أحاديث النيّة، و كثرت كثرة توجب الاطمئنان بصدورها أو بعضها على الأقلّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام، و هذا ما أغنانا عن النظر في أسانيدها، و قد مرّت في مصادر النيّة.
و قد ادّعاه بعض الأعلام، و قد أجبنا عن مثله بإمكان كونه مدركيّا، فلا يصلح للاستدلال به لعدم ثبوت حجّيته.
الظاهر أنّ العقلاء يصدرون بتصرّفاتهم عن هذه القاعدة، و يبنون عليها، و أنّ الشارع المقدّس قد أمضاهم على ذلك.
ذكر قاضي خان-كما جاء في الأشباه و النظائر لابن نجيم-: «أنّ بيع العصير ممّن يتّخذه خمرا إن قصد به التجارة فلا يحرم، و إن قصد به لأجل التخمير حرم، و كذا غرس الكرم على هذا» .
قال الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء: «اعتبار القصود في العقود ممّا لا شكّ فيه و لا ريب، بمعنى: أنّ العقد إذا خلا من قصد فهو لغو، بل كلّ كلام كذلك، و لكنّ إناطة المدار في العقد على القصد وحده دون اللفظ غير صحيح، بل لا يتحقّق العقد إلاّ باللّفظ الخاص، و لكن مع القصد.