كان يعيش في عصر الحَجَّاج بن يوسف رجل عالم وأديب اسمه (قبعثري) كان يوماً مع أصحاب له في جلسة أُنس في بعض البساتين خارج المدينة . وخلال تبادل الحديث جاء ذكر الحَجَّاج ، فعرَّض به قبعثري في كلامه كناية مُظهراً عدم رضاه عنه ، فوصل هذا إلى سمع الحَجَّاج ؛ فعزم على مُعاقبته على التعريض به .
استحضره وقال له مُحتدَّاً : لأحملنك على الأدهم ، أي : سأسجنك وأضع القيد في رجليك ، (للأدهم في العربية معانٍ كثيرة ، منها : تقييد الرجلين ، ومنها الفرس الأسود) .
أدرك قبعثري الأديب الأريب قصد الحَجَّاج ، وعرف أنَّه يُهدِّده بالقيد والسجن ، ولكنَّه لتجنُّب الخطر تغافل عن هذا المعنى ولم يُبدٍ أنَّه فهم المُراد ، بلْ أظهر أنَّه فهم مِن (الأدهم) أنَّه يقصد الفرس الأسود ، ولذلك قال له باسماً : مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب . أي أنَّ الأمير بما له مِن مقام كبير وقُدرة عظيمة قادر على أنْ يشمل الناس بعطفه وكرمه ، فيرسلهم إلى أهليهم على الخيول السود والشهب .
فقال الحَجَّاج توضيحاً لقوله : أردت الحديد . وكان مِن باب المُصادفة أنَّ للحديد في العربيَّة معاني متعددة ، منها : القيد ، ومنها الذكاء والفطنة . فتغافل قبعثري مَرَّة أُخرى عن المقصود الحقيقي وقال : الحديد خير مِن البليد . قاصداً أنَّ الفرس الذكي خير مِن الفرس البليد .
لقد قلب قبعثري بهذا التغافل الأدبي الذي قلَّ نظيره ـ والذي مزجه بالتكريم والاحترام ـ الموقف رأساً على عقب ؛ مِمَّا أطفأ نار غضب الحَجَّاج وأنقذه مِن السجن والحديد ، بلْ استجلب رضى الحَجَّاج وعطفه ؛ فلم يبخل عليه بعطيَّته [1] .