كان المأمون العباسي ، وبهدف الدراسة والتحقيق في المسائل العلميَّة ، يعقد مَحفلاً للعلماء في يوم مِن أيَّام الأسبوع . وكان يُحتِّم على العلماء أنْ يجتمعوا في ذلك اليوم أمام الخليفة ، كما كان يسمح لعلماء الولايات بالحضور أيضاً .
وفي يوم مِن أيَّام انعقاد هذا المجلس بحضور المأمون ، دخل رجل ذو ثياب رَثَّة وجلس في نهاية صَفِّ الحاضرين ، فأُلقيت مسألة في المجلس أجاب عليها ذلك الرجل إجابةً كاملة ، بحيث اتَّجهت إليه الأنظار واستحسنه جميع العلماء ، فأمر المأمون باستقدامه وإجلاسه في مُقدَّمة صفوف العلماء ، وطُرِحت مسألة أُخرى أجاب عليها ذلك الرجل أفضل إجابة ، فأمر الخليفة أنْ يُقدِّموه ويُجلسوه بالقُرب منه .
بعد ساعة انفضَّ المجلس وأخذ العلماء يُغادرون المكان ، فنهض الرجل الفقير وتهيَّأ للذهاب ، فأمره الخليفة بالبقاء . ولم يمضِ وقت طويل حتَّى جيء بالشراب وبدأ السُّقاة بتوزيعه ، فبان القَلق على وجه الرجل العالم لمُشاهدة ذلك ، فنهض وطلب الإذن بالانصراف وقال : إنَّني جِئت اليوم بحالة الفَقر والرِّداء القديم للمُشاركة في مجلس العلماء ، وقد أوصلني عقلي القاصر مِن آخر المجلس إلى صفوف الكبار ، وأجلسني إلى جوار الخليفة ، فليس مِن اللائق أنْ أشرب الشراب ، وأفقد عَقلي الذي رفع مقامي ، ثمَّ إنَّني أخشى أنْ يُفقدني السُّكْر عِنان نفسي ، وأرتكب عملاً غير مُناسب وأُصبح موضع تحقير أمام خليفة المسلمين . وسمع المأمون حديث الرجل العالم فأعفاه مِن الاشتراك في المجلس وأمر بمَنحه مئة ألف درهم [1] .