responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : الحيوان نویسنده : الجاحظ    جلد : 1  صفحه : 30

16-[مقارنة بين الإنسان و الحيوان‌]

و القسمة الأخرى ما أودع صدور صنوف سائر الحيوان، من ضروب المعارف، و فطرها عليه من غريب الهدايات، و سخّر حناجرها له من ضروب النّغم الموزونة، و الأصوات الملحنة، و المخارج الشجيّة، و الأغاني المطربة؛ فقد يقال إنّ جميع أصواتها معدّلة، و موزونة موقّعة، ثمّ الذي سهّل لها من الرفق العجيب في الصنعة، مما ذلّله اللّه تعالى لمناقيرها و أكفّها، و كيف فتح لها من باب المعرفة على قدر ما هيّأ لها من الآلة، و كيف أعطى كثيرا منها من الحسّ اللطيف، و الصنعة البديعة، من غير تأديب و تثقيف، و من غير تقويم و تلقين، و من غير تدريج و تمرين، فبلغت بعفوها و بمقدار قوى فطرتها، من البديهة و الارتجال، و من الابتداء و الاقتضاب، ما لا يقدر عليه حذّاق رجال الرأي، و فلاسفة علماء البشر، بيد و لا آلة. بل لا يبلغ ذلك من الناس أكملهم خصالا و أتمّهم خلالا، لا من جهة الاقتضاب و الارتجال و لا من جهة التعسّف و الاقتدار، و لا من جهة التقدّم فيه، و التأنّي فيه، و التأتّي له. و الترتيب لمقدّماته، و تمكين الأسباب المعينة عليه. فصار جهد الإنسان الثاقب الحسّ، الجامع القوى، المتصرّف في الوجوه، المقدّم في الأمور، يعجز عن عفو كثير منها.

و هو ينظر إلى ضروب ما يجي‌ء منها، كما أعطيت العنكبوت، و كما أعطيت السّرفة [1] ، و كما علّم النحل، بل و عرّف التّنوّط من بديع المعرفة، و من غريب الصنعة، في غير ذلك من أصناف الخلق. ثم لم يوجب لهم العجز في أنفسهم في أكثر ذلك، إلاّ بما قوي عليه الهمج و الخشاش و صغار الحشرات، ثم جعل الإنسان ذا العقل و التمكين، و الاستطاعة و التصريف، و ذا التكلّف و التجربة، و ذا التأنّي و المنافسة، و صاحب الفهم و المسابقة، و المتبصّر شأن العاقبة، متى أحسن شيئا كان كلّ شي‌ء دونه في الغموض عليه أسهل، و جعل سائر الحيوان، و إن كان يحسن أحدها ما لا يحسن أحذق الناس متى أحسن شيئا عجيبا، لم يمكنه أن يحسن ما هو أقرب منه في الظنّ، و أسهل منه في الرأي، بل لا يحسن ما هو أقرب منه في الحقيقة.

فلا الإنسان جعل نفسه كذلك، و لا شي‌ء من الحيوان اختار ذلك، فأحسنت هذه الأجناس بلا تعلّم، ما يمتنع على الإنسان و إن تعلّم، فصار لا يحاوله؛ إذ كان لا يطمع فيه، و لا يحسدها؛ إذا لا يؤمّل اللّحاق بها. ثمّ جعل تعالى و عزّ، هاتين الحكمتين بإزاء عيون الناظرين، و تجاه أسماع المعتبرين، ثمّ حثّ على التفكير


[1] السرفة: الأرضة. (حياة الحيوان 1/555) .

نام کتاب : الحيوان نویسنده : الجاحظ    جلد : 1  صفحه : 30
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست