بيان ذلك: إن القاعدة الأولية عند الشك بالتكليف و عدم العلم به هي البراءة العقلية بمقتضى حكم العقل بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعليه فكل تكليف لم يتم عليه البيان و لم يحصل العلم به يكون مورداً للقاعدة المذكورة، و من الواضح أن التكليف الذي دلّت عليه الأمارة أو ثبت بمقتضى الأصل العملي الشرعي لا يخرج عن كونه مشكوكاً بمجرّد جعل الحجية لتلك الأمارة أو ذلك الأصل، و معه تكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان محكّمة حتى مع فرض مجي‌ء الحكم الظاهري فيما لو دلّت أمارة أو أصل عملي شرعي على ثبوت التكليف؛ و ذلك لتمامية موضوعها و هو عدم البيان، أي: عدم العلم بالتكليف الواقعي. فجعل الحجية للأمارة أو الأصل العملي الشرعي المثبتين للتكليف لا يخرج الواقع عن كونه مشكوكاً وجداناً، فلو جاءتنا أمارة- كخبر الثقة مثلًا-، مفادها وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، أو كان ذلك الوجوب مستفاداً من أصل شرعي كالاحتياط مثلًا، ففي هذه الحالة لا يحصل لنا العلم بالحكم الواقعي؛ إذ من المحتمل أن لا يكون الدعاء عند رؤية الهلال واجباً واقعاً، لاحتمال مخالفة الأمارة أو الأصل للواقع.

فالتكليف الواقعي- إذن- لا زال مشكوكاً؛ لأن الأمارة أو الأصل حتى مع جعل الحجية لهما غاية ما يفيدانه هو الظن على أكثر تقدير، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، و تثبت المعذّرية تجاه الواقع المشكوك.

و على هذا، فإنّ جعل الحكم الظاهري في هذه الحالة يكون لغواً بعد عدم قابليته لتنجيز الواقع، و ما يلزم من جعله اللغوية، يستحيل جعله من قبل الحكيم، و هذا ما يسمى ب- (شبهة تنجّز الواقع المشكوك) [1].

عدم إمكان الالتزام بالتخصيص لدفع هذه الشبهة:

قوله (قدس سره) ص 24: (و الأحكام العقلية غير قابلة ... الخ).

ربّما يتوهم البعض و يتصور أنه بالإمكان الالتزام بتخصيص قاعدة قبح العقاب بلا

[1] اعلم أنّه لم يوجد في كلام ابن قبة عين أو أثر لهذه الشبهة، إلّا أنّ الأصحاب عمّقوا إشكاله إلى المستوى الذي تجده في كلماتهم و كتبهم، كما أنه من الواضح أنّه لا مجال لهذه الشبهة على مسلك حق الطاعة الحاكم بمنجزيّة الاحتمال و الظن، و إنما تجري على مسلك المشهور القائل بقبح العقاب بلا بيان.