على الدماغ من فضلة غذائه ، بقيت الفضلة منحصرة في حجب الدماغ وكثرت هنالك ، وضعفت القوة الدافعة عن دفعها إلى الواضع البعيدة من الدماغ ، وذابت وسالت وخرجت من أقرب المواضع إلى الدماغ مثل العينين والخياشيم . ولجالينوس فيما يصلح للتمليح من الحيوان قول ، قال فيه : إن ما كان من الحيوان ليس بصلب ولا سمين ، فإنه إن ملح ولد غذاء فاضلا . أراد بقوله : ( ليس بصلب ) ألا يكون قحلا جافا ، مثل الهرم من كل حيوان . وأراد بقوله : ( ولا سمين ) أحد معنيين : أحدهما : ألا يكون مثل الصغير من الضأن في إفراط رطوبته ورخاوة لحمه . والثاني : أن لا يكون سمينا جدا ، لان الشحم في طبعه غليظ لزج [1] ، فإذا واقعه الملح اكتسب حدة وحرافة وأضر بالمعدة إضرارا بينا . فإذا صار إلى العروق ، غلظ الدم وأحرقه وأفسده . وكذلك الامر ينقاس في السمك ، لان ما كان من السمك قد اجتمعت له رخاوة الجسم وإفراط رطوبة المزاج ، أو صلابة الجسم وجفاف المزاج ، كان مذموما للتمليح ، للأسباب التي قدمنا ذكرها . وما كان جسمه صلبا ورطوبة مزاجه غزيرة [2] ، أو جسمه رخوا ورطوبة مزاجه يسيرة ، كان أفضل للتمليح . وأما جالينوس ، فزعم أن ما كان من السمك جسمه رخوا فهو مذموم للتمليح أصلا كانت رطوبته غزيرة أو يسيرة . إلا أنه في الجملة متى كانت رطوبة مزاجه أقل ، كان أفضل قليلا لان الرطوبة إذا كانت غزيرة مع الجسم الرخو ، ضعفت قوة الملح عن نشفها ، وكان ما تبقى منها زائدا في رخاوة الجسم وفساده ، وصار مذموم الغذاء . وأما الرطوبة اليسيرة ، فإن الملح وإن لم يفنها [3] بأسرها فإن الذي يبقى منها غير زائد في رخاوة الجسم لقلته . وإذ ذلك كذلك ، فمن الأفضل ألا يملح من السمك إلا ما كان جسمه صلبا . ولا يملح أيضا إلا وهو بعد طري متحرك في صلابة جسمه وقوة حرارته الغريزية ، لان صلابة جسمه تعتدل بما يصل إليها من يسير الرطوبة ، ويصلح غذاؤه ، والله عز وجل أعلم .
[1] في الأصل : غليظا لزجا . [2] في الأصل : غزيرا . [3] في الأصل : يفنيها .